في 17 تموز/ يوليو الماضي (يصادف يوم وصول المقدم علي عبدالله صالح، إلى السلطة عام 1978)، أقر المجلس السياسي الأعلى في سلطة صنعاء غير المعترف بها دولياً، تمديد رئاسة مهدي المشاط لثلاث فترات رئاسية تنتهي في آب/ أغسطس 2024.
يلتقي المشاط وصالح في الانتماء إلى المذهب الشيعي الذي يشكل أتباعه أقلية سكانية، إلا أنهم حكموا أجزاء كبيرة من اليمن لحوالي ألف عام، تحت نظام الإمامة، حتى 1962، ثم تحت غطاء الجمهورية حتى 2012.
بخلاف صالح الذي وصل إلى السلطة بتزكية من مجلس الشعب التأسيسي (غير منتخب)، جاء المشاط إلى الحكم عبر سلسلة تمردات مسلحة نفذتها مليشيا الحوثيين. انطلقت من محافظة صعدة عام 2004، وتوجت في 21 أيلول/ سبتمبر 2014، بالسيطرة على صنعاء، وطرد الرئيس المؤقت عبد ربه منصور هادي، أول شافعي يحكم من صنعاء بموجب خطة لنقل السلطة وقعتها في تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، الأحزاب اليمنية، بضمانة مجلس التعاون الخليجي والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا.
يمثل الحوثيون الذراع العسكرية لما سمتها الباحثة البريطانية هيلين لاكنر “أحزاب صعدة”، مشيرة تحديداً إلى “حزب الحق” و”اتحاد القوى الشعبية”.
منذ ظهورها تحت مسمى “تنظيم الشباب المؤمن”، تولى قيادة المليشيا مؤسسون لحزب الحق، مثل محمد عزان وحسين بدر الدين الحوثي.
أثناء تمرد صعدة أشاع الحوثيون رواية تزعم “أن الزيديين تعرضوا للتهميش والتمييز السياسي والاجتماعي في الوظائف الحكومية، والقمع الفكري والمذهبي من قبل الأكثرية الشافعية”، وهي رواية مررها مؤتمر الحوار الوطني من دون دليل.
يبرهن هذا التحقيق على أن النزاع المعروف إعلامياً بحروب صعدة (2004-2010)، كان صراعاً سياسياً داخل النخبة الزيدية الحاكمة نفسها، غذته تحولات دولية وإقليمية طرأت بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001 ولا صلة له بالمظلومية.
يشير سجل الانقلابات في اليمن إلى أن رأس الدولة (رئيس الجمهورية) يظل مجرد فرد أعزل من القوة ما لم تكن هناك عصبية قبائلية أو مذهبية أو حزبية تُثبته في موقعه أو تزيحه منه.
وباستثناء الرئيس الشمالي أحمد حسين الغشمي الذي قتل في 24 يونيو 1978، بحقيبة مفخخة حملها له مبعوث خاص من الرئيس الجنوبي سالم ربيع علي (سالمين)، قضى رؤساء اليمن شمالاً وجنوباً أو أزيحوا من مناصبهم بواسطة التنظيمات القبائلية أو السياسية التي أوصلتهم إلى الحكم.
على غرار ما حدث نهاية عام 2011، عندما توافقت الأحزاب اليمنية الموقعة على المبادرة الخليجية، على إزاحة الرئيس السابق علي عبدالله صالح، واختيار نائبه عبد ربه منصور هادي، رئيساً مؤقتاً لقيادة المرحلة الانتقالية، كذلك قررت الأحزاب ذاتها، في 7 أبريل الجاري، إزاحة الرئيس هادي ونائبه علي محسن الأحمر، وتشكيل مجلس رئاسي مؤلف من 8 شخصيات مناصفة ما بين الشمال والجنوب.
يتتبع التحقيق كيفية اصطناع عصبية جهوية في جنوب اليمن، وعصبية مذهبية في شماله، بهدف خلخلة نظام الرئيس علي عبدالله صالح، وإعادة هيكلته وفقاً لمبدأ “الشراكة” بين الشمال والجنوب، المطلب الذي رفعته القوى السياسية المهزومة في حرب صيف 1994، على مستوى الجنوب والشمال، ولقي دعماً من القوى الدولية والإقليمية المنخرطة في الحرب العالمية على الإرهاب.
كان بالإمكان إزاحة هادي في يناير 2015، إلا أن ذلك لم يكن ليحقق هدف تفكيك الحاضنات الأيديولوجية والعسكرية للتيارات الإسلامية المتطرفة. لذلك عمد مجلس النواب إلى عدم الانعقاد للنظر في استقالة الرئيس هادي الذي زعم أنه تمكن من الفرار من صنعاء في 21 فبراير 2015، أي قبل يوم من انتهاء المدة القانونية المحددة للتراجع عن الاستقالة، وأثناء فراره المزعوم دُفع هادي إلى سلك نفس الطريق التي سلكها الزعيم الجنوبي علي سالم البيض، باتجاه سلطنة عُمان، بعد هزيمة قواته أثناء حرب 1994.
مظلومية زائفة
لا توجد إحصاءات رسمية بعدد أتباع المذاهب الإسلامية في اليمن، لكن تقديرات تشير إلى أن نسبة الشيعة (زيدية وإسماعيلية) لا تزيد عن 40% من إجمالي السكان البالغ 30 مليون شخص، تقدر نسبة السُّنة (شافعية ومالكية) بحوالي 60%. أما نسبة الهاشميين الذين يزعمون تحدرهم من نسل نبي الإسلام محمد، فتقدر ما بين 7 و10% من إجمالي السكان، لكنهم حكموا أجزاء كبيرة من اليمن لمئات السنين.
في أيلول/ سبتمبر 1962، تمكن تنظيم الضباط الأحرار، بدعم من مصر، من الإطاحة بنظام الإمامة الزيدية وإعلان الجمهورية في شمال اليمن، إلا أن الزيدية عادت لتهيمن مجدداً على الحكم عبر نسختها القبلية العسكرية.
شكل الزيديون 80% من قوام مجلس قيادة الثورة الذي تأسس في 27 أيلول/ سبتمبر1962، ومنذ ذلك التاريخ وحتى توحيد شمال اليمن وجنوبه عام 1990، حكم شمال اليمن 6 رؤساء، جميعهم زيديون.
خلال السنوات الأولى من عمر الجمهورية اليمنية؛ الكيان الذي تأسس في 22 أيار/ مايو 1990، بموجب اتفاقية الوحدة، شهدت بنية الحكم توازناً نسبياً في تمثيل الشيعة والسنة، إلا أن ذلك التوازن سرعان ما اختل لصالح الزيدية، خصوصاً بعد هزيمة الجيش الجنوبي أمام الجيش الشمالي في حرب صيف1994.
تظهر قوائم شاغلي المناصب العليا للفترة ما بين عامي 1995 و2011، هيمنة الزيديين، بمن فيهم الهاشميون، على السلطة، فيما جاءت محافظات شافعية مهمشة تاريخياً، مثل الحديدة وسقطرى والمهرة، ضمن المحافظات الأقل تمثيلاً في الحكم. علماً أن سقطرى والمهرة تعتبران أقلية ثقافية ولغوية تميزهما عن بقية مناطق اليمن. كما تعد الحديدة ثاني أكبر محافظة يمنية في عدد السكان بعد تعز.
حسب خارطة الفقر التي نُفذت عام 1999، سُجل أعلى معدل للفقراء في محافظة تعز، تليها محافظات: إب، أبين ولحج، بينما احتلت صعدة المرتبة قبل الأخيرة.
ما بين عامي 2001 و2010، تعاقب على صعدة 4 محافظون ينتمون إلى المذهب الزيدي، اثنان منهم حوثيان، أحدهما اللواء يحيى محمد الشامي، زيدي هاشمي شغل منصب مساعد القائد العام للقوات المسلحة في حكومة صنعاء غير المعترف بها، حتى وفاته في نيسان/ أبريل 2021.
في المقابل، ظلت المحافظات الشافعية، تُحكم بواسطة قيادات عسكرية ومدنية زيدية. شغل القاضي أحمد عبدالله الحجري محافظاً لمحافظة تعز، مدة 10 سنوات، قبل أن يُنقل نهاية عام 2007 محافظاً للحديدة. وفي عدن تولى منصب المحافظ أحمد محمد الكحلاني، وكلاهما هاشميان. كما بقي كرسي مفتي الجمهورية حكراً على الزيدية.
لكن المفارقة أن مزاعم المظلومية ظهرت في مناطق الجغرافيا الزيدية، وتحديداً في صعدة، العاصمة الدينية للزيدية، وهي مزاعم ترتبط بطبيعة المذهب الزيدي الذي يسمح بحكم إمامين في وقت واحد، ما تسبب في غياب الاستقرار عن شمال اليمن، حسب مصادر تاريخية.
أئمة الفوضى
على مدى 656 سنة، مارس الإمامة 42 إماماً ومحتسباً، تعارض منهم 39 إماماً ومحتسباً. معظم حالات التعارض اتسمت بالصراع المسلح، حسب أطروحة جامعية بعنوان: “الأسس الفكرية للتناقضات في السلطة الزيدية – دراسة تاريخية لظاهرة تعارض الأئمة الزيدية في اليمن 284-840هـ”.
تُعد صعدة (242كم شمال صنعاء) من أبرز محافظات شمال اليمن خروجاً على سيطرة الدولة، وعلى مدى أكثر من نصف قرن، ظلت سلطة الحكومة في صعدة ضعيفة، وعُرضة لتنمر رجال القبائل المسلحين، إلى درجة أن شاباً في أسرة الحوثي يدعى عبدالقادر استطاع في نيسان/ أبريل 2003، أن يحتجز بمفرده 3 دوريات عسكرية بمن عليها من جنود، حسبما نشر موقع أنصار الله.
عند اندلاع شرارة الحرب الأولى في صعدة، منتصف عام 2004، كان لدى “تنظيم الشباب المؤمن” بقيادة حسين بدر الدين الحوثي، 18 ألف طالب تلقوا دروساً مذهبية وتدريبات قتالية في 24 مركزاً في صعدة، من إجمالي 65 مركزاً أسسها التنظيم ما بين عامي 1999 و2004، في 9 محافظات، بينها تعز وإب، حسب دراسة مُحكمة بعنوان “الجذور التاريخية للأزمة اليمنية”.
ووفقاً للدراسة، هدفت تلك الأنشطة إلى “تفريغ العصبية القبلية التي يستند إليها الحكم في شرعيته، لمصلحة العصبية المذهبية”.
لكن المزاوجة بين العنف والسياسة لا تقتصر على أحزاب صعدة “فجميع الأحزاب اليمنية انقلابية”، يقول لـ”يمن سايت” عبدالهادي العزعزي، عضو الأمانة العامة لحزب التجمع الوحدوي اليمني (يساري غير ممثل في البرلمان).
ووفقاً لدراسة بعنوان “بناء الدولة الرعوية في اليمن: توحيد النخبة وتفكيك الأمة”، فإن النخبة التي نفذت عملية التحول الديمقراطي منذ عام 1990 “لا تؤمن إيماناً حقيقياً بالديمقراطية، لذلك عمدت إلى بناء الدولة وفقاً لشروط لا تتلاءم مع متطلبات الديمقراطية الليبرالية”.
كان العزعزي ضمن 565 عضواً من الجنسين شاركوا في مؤتمر الحوار الوطني (18 مارس 2013-24 يناير 2014). وبعد حوالي 75 يوماً من انطلاق أعمال المؤتمر، قررت قيادة حزب العزعزي استبداله بمبرر الحاجة لتمثيل المرأة.
لكن السبب الحقيقي، حسب العزعزي، معارضته لحق تقرير المصير الذي ناقشه فريق بناء الدولة في مؤتمر الحوار، بالمخالفة للمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية التي تنص على أن “يقف الحوار أمام القضية الجنوبية بما يفضي إلى حل وطني عادل لها يحفظ لليمن وحدته واستقراره وأمنه”.
خلال احتجاجات 2011، المطالبة بإسقاط نظام الرئيس علي عبدالله صالح، جمعت أحزاب صعدة ما بين التظاهر السلمي في صنعاء ومواصلة القتال. فسيطرت على صعدة بالكامل وأجزاء من محافظتي حجة والجوف، ونصبت من طرف واحد، تاجر السلاح الشهير فارس مناع، المُدرج في قائمة عقوبات الأمم المتحدة، محافظاً لصعدة.
في تلك السنة العاصفة بالمظاهرات، واصل تهاميون (نسبة إلى تهامة على البحر الأحمر) اعتصاماتهم السلمية، مستذكرين مظالم منطقتهم في عهد الجمهورية، وأقدمها ما حدث عام 1967 حين نصب زعيم قبيلة بكيل الزيدية، الشيخ سنان أبو لحوم، نفسه محافظاً على الحديدة، من دون قرار حكومي. وعندما احتج مزارعون على الجبايات المفروضة عليهم، قمعهم أبو لحوم في ما يعرف بمحرقة القوقر ، حسبما يؤكد لـ”يمن سايت” الباحث في مركز الدراسات والبحوث اليمني (حكومي) عبدالباري طاهر.
في 13 شباط/ فبراير 2012 -قبل أقل من 10 أيام من انتخاب عبد ربه منصور هادي رئيساً توافقياً- وقع عدد من علماء الزيدية (رجال دين)، ومن ضمنهم عبدالملك الحوثي، “الوثيقة الفكرية والثقافية لأبناء الزيدية”. تنص الوثيقة على حصر الولاية (الرئاسة) بالهاشميين المنتسبين إلى نسل نبي الإسلام محمد.
كانت الشاعرة والروائية نبيلة الزبير ضمن مئات أعجبوا بتغريدة نشرها في 27 آذار/ مارس 2012، رئيس تحرير صحيفة “النداء” المستقلة، سامي غالب، منتقداً محتوى تلك الوثيقة، إلا أن مؤتمر الحوار الوطني، لم يتطرق للوثيقة، أو يطلب من الحوثيين التراجع عنها، حسبما أكدت لـ”يمن سايت” 5 مصادر، بينها رئيسة فريق صعدة في مؤتمر الحوار الوطني، نبيلة الزبير، التي اعتبرت الوثيقة “شأناً يخص موقعيها”.
من “الوهابية” إلى “الخمينية”
زعم الحوثيون أن مذهبهم الزيدي مهدد بسبب الوهابية، لكن “دخول الوهابية السلفية إلى اليمن جاء مع المعاهد العلمية”، يقول طاهر.
والمعاهد العلمية، مدارس دينية تُتهم المملكة العربية السعودية بتمويلها لنشر الأيديولوجية الوهابية، تأسست في سبعينيات القرن العشرين، بقرار من الرئيس إبراهيم الحمدي، وهو زيدي من فئة القضاة، أقرب إلى الهاشمية.
أبرز الشخصيات التي تولت قيادة الهيئة العامة للمعاهد العلمية، زيدية هاشمية، مثل يحيى لطف الفسيل، حمود الذارحي، والقاضي عبدالله الحجري. وأول معهد علمي تأسس في منطقة مسور خولان الواقعة ضمن الجغرافيا الزيدية.
يقول طاهر: “على الرغم من أن زعامات الوهابية كانت في المناطق الزيدية، إلا أن الوهابية كتيار سلفي انتشرت بكثرة في المناطق الشافعية”. مرجعاً ذلك إلى قابلية المجتمع الشافعي.
بحسب موسوعة الإخوان المسلمين على الإنترنت، فإن أول اتصال لجماعة الإخوان المسلمين المصرية باليمن، يرجع إلى عام 1929، عندما التقى مرشد الجماعة حسن البنا، السيد محمد زبارة، ممثل المملكة المتوكلية اليمنية، وصهر ملك اليمن حينها الإمام يحيى حميد الدين.
يوصف مبعوث الإخوان المسلمين إلى اليمن، الفضيل الورتلاني، بمهندس انقلاب شباط/ فبراير 1948، الذي نفذه آل الوزير (شيعة هاشميون)، وانتهى بالفشل وإعدام قائده أمير الجيش عبدالله الوزير.
تأسيس الخلايا الأولى لتنظيم الإخوان المسلمين في اليمن، كان على يد شخصيات زيدية مثل القاضي محمد محمود الزبيري والشيخ عبدالمجيد الزنداني. شكل الزيديون حوالي 90% من قيادات الرعيل الأول لتنظيم الإخوان المسلمين في شمال اليمن، حسب إحصائية أعدها معد التحقيق.
في 1979 تأسس في صعدة معهد الحديث السلفي بواسطة مقبل الوادعي، زيدي تحول إلى الوهابية بسبب الثقافة التراتبية لطبقة السادة الهاشميين الذين يعتبرون غير المنتمي إلى طبقتهم أدنى مرتبة، وفق الباحث الفرنسي فرانسوا بورغا، في كتابه “ما بعد الإسلام السياسي مرحلة جديدة أم أوهام أيديولوجية”.
خلافاً للوادعي، الذي أُخضع لعملية غسل دماغ في محاولة لرده إلى مذهبه الزيدي، تعاملت الهاشمية السياسية مع المتحولين من أفراد طبقتها، بأسلوب مختلف. ومن هؤلاء المهندس أحمد شرف الدين، الذي ظهر في شباط/ فبراير 2021، عبر قناة “الهوية” المقربة من الحوثيين، معتزاً بانتمائه إلى الإخوان المسلمين.
لم تقف النخب الزيدية المتصارعة على الحكم عند استيراد الوهابية، بل عمدت إلى نشر التشيع بنسخته الخمينية، والترويج له في المناطق الشافعية.
وعلاوة على شعار الصرخة الخمينية، تظهر مقاطع فيديو بثتها قناة “المسيرة” لاحتفالات نُظمت لأول مرة في تعز، لمناسبة يوم الولاية، خطباء وشعراء من أبناء مديرية شرعب الشافعية الواقعة تحت سيطرة حكومة صنعاء، وهم يحاولون إقناع الجمهور أن التشيع كان مذهب آبائهم وأجدادهم.
تشير معلومات جمعها معد التحقيق، إلى أن معظم الشوافع الذين يشاركون في حصار مدينة تعز، ويروجون للأيديولوجية الخمينية، هم يساريون وقوميون ممن خاضت تنظيماتهم في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، حرباً ضد نظام صنعاء وحليفته الجبهة الإسلامية (الذراع العسكرية لتنظيم الإخوان المسلمين). قبل أن يشكلوا جميعاً “المؤتمر الشعبي العام” الذي تأسس عام 1982، كجبهة سياسية حاكمة في الشمال، ضمت تيارات يمينية ويسارية.
مثلما تحالفت الزيدية السياسية القبلية مع تنظيم الإخوان وجماعات سلفية، كذلك تحالفت الهاشمية السياسية مع تنظيمات يسارية وقومية.
لكن هذه التحالفات أبقت الشوافع مجرد أتباع، ولم تؤسس لدولة القانون والمواطنة المتساوية؛ القضية التي ناقشها، عام 1988، كتاب “الجمهورية بين السلطنة والقبيلة في شمال اليمن”. ومثلت أبرز مطالب الشبان المحتجين الذين خرجوا في 2011 إلى الشوارع، مطالبين بإسقاط النظام.
خلال حكمه الذي استمر أكثر من 30 عاماً، لم يستطع علي عبدالله صالح أن يتجرد من مذهبيته الزيدية ليحكم بالعدل والمساواة، حسب ورقة بحثية بعنوان “التركيبة الطائفية في اليمن وعلاقتها بالحكم والثورة”.
كذلك يُعد المشاط الممثل الأحدث للزيدية الهاشمية بنسختها التقليدية القائمة على نظرية الاصطفاء الإلهي. فعلى الرغم من وجود شوافع داخل المجلس السياسي، إلا أن رئاسة المجلس مازالت حكراً على الزيدية، بالمخالفة لاتفاق تأسيس المجلس الموقع في 2016، وينص على أن “تكون رئاسة المجلس دوريةً بين المؤتمر الشعبي وأنصار الله”.
مليشيا “موفنبيك”
مقارنة بما حصل في سوريا وليبيا من احتراب، اعتبر الحوار الوطني في اليمن تجربة فريدة، في ثورات الربيع العربي، إلا أن حوار اليمن الذي عقد على مدى 9 شهور، في “فندق موفنبيك” المطل على مدينة صنعاء القديمة، كان “محاولة لكسب الوقت.. فنوايا القوى السياسية المشاركة في الحوار لم تكن صادقة”، حسبما تقول لـ”يمن سايت” نائبة الأمين العام لمؤتمر الحوار الوطني أفراح الزوبة.
علاوة على وجود امتداد حزبي لهما، لم يكن الحوثيون والحراك الجنوبي ضمن الموقعين على المبادرة الخليجية، لكنهما دُفعا دفعاً للمشاركة في مؤتمر الحوار، ما تسبب في تعثر مسار الحوار ونسف نتائجه.
يقول لـ”يمن سايت”، ممثل حزب المؤتمر الشعبي في مؤتمر الحوار، عادل الشجاع: “على الرغم من أن الحوثيين والحراك الجنوبي عطلا جلسات مؤتمر الحوار عدة مرات، إلا أن المبعوث الأممي جمال بن عمر لم يتخذ أي إجراء، وعندما كان أحدنا يصر على رأي كان بن عمر يتهمه بتعطيل العملية السياسية، ويهدده بعقوبات أممية”. ولم يعلق بن عمر أو يرد على أسئلة معد التحقيق.
بخلاف حكومة الوفاق الوطني التي شُكلت، بموجب المبادرة الخليجية، مناصفة ما بين حزب المؤتمر الشعبي الحاكم وحلفائه، وأحزاب اللقاء المشترك (المعارضة)، تم تكييف مؤتمر الحوار على مبدأ التقاسم ما بين الشمال والجنوب.
منحت اللجنة التحضيرية الجنوب 50% من مقاعد مؤتمر الحوار، وهي نسبة تزيد كثيراً عن حجم السكان، على ما لاحظت دراسة للمؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات.
في 25 حزيران/ يونيو 2013، قال رئيس فريق القضية الجنوبية في مؤتمر الحوار محمد علي أحمد: “سنرسم لليمن خريطة جديدة”، لكن خريطة “اليمن الجديد”، لم ترسم سلمياً، بل عن طريق حرب مفتعلة “ضمن لعبة سياسية شارك فيها الجميع، بترتيب داخلي وخارجي”، وفق ما يقول لـ”يمن سايت” مدرس علم الاجتماع السياسي في جامعة صنعاء فؤاد الصلاحي.
بينما كان الحوثيون يحاصرون بلدة دماج في صعدة، في عملية انتهت بالسيطرة على معهد الحديث السلفي وتهجير طلابه، أعلنت حكومة الوفاق الوطني، في 21 آب/ أغسطس 2013، نيابة عن الأطراف التي شاركت في حرب 1994 وحرب صعدة، اعتذارها لأبناء المحافظات الجنوبية والشرقية وأبناء محافظة صعدة.
الاعتذار الحكومي الذي اعتبره الحوثيون والحراك الجنوبي اعترافاً رسمياً بمظلوميتهما المزعومة، جاء تنفيذاً للنقطتين الثامنة والخامسة عشرة من النقاط العشرين التي أقرتها اللجنة الفنية للإعداد والتحضير لمؤتمر الحوار الوطني الشامل. لكن ذلك الاعتذار وتلك النقاط، لم يستندا على أدلة.
بموجب قرار تشكيلها، الصادر في 14 تموز/ يوليو 2012، تختص “اللجنة الفنية للإعداد والتحضير لمؤتمر الحوار الوطني”، في “اتخاذ كل الخطوات التحضيرية الضرورية لانعقاد مؤتمر الحوار الوطني الشامل في موعده”، إلا أن اللجنة التي تألفت من 25 عضواً يمثلون مختلف المكونات، تجاوزت اختصاصها وأقرت “النقاط العشرين”.
تنص الفقرة (ث) من المادة 19 من الآلية التنفيذية للمبادرة الخليجية، على أن ينظر مؤتمر الحوار في “القضايا المختلفة ذات البعد الوطني، ومن ضمنها أسباب التوتر في صعدة”. إلا أن اللجنة التحضيرية صادرت مسبقاً مهام مؤتمر الحوار الذي لم يكن قد تشكل بعد، وأقرت تقديم اعتذار إلى صعدة والجنوب.
علاوة على مخالفتها للقواعد، ركزت النقاط العشرون على قضيتي صعدة والجنوب، وخلت من أية إشارة إلى مظالم الأقليات الضعيفة، كقضية أبناء الطائفة اليهودية، سكان صعدة الأصليين منذ آلاف السنين، الذين اتُّهم الحوثيون، في 2007، بتهجيرهم من ديارهم ونهب ممتلكاتهم.
مطلع عام 2013، استقال عضوا اللجنة التحضيرية: ماجد المذحجي ورضية المتوكل، من اللجنة؛ ليس احتجاجاً على تجاوز اللجنة صلاحياتها، بل بسبب عدم تنفيذ النقاط العشرين، واختزال عمل اللجنة في المبعوث الأممي وقيادات أربعة أحزاب هي: المؤتمر الشعبي، الاشتراكي اليمني، التجمع اليمني للإصلاح والتنظيم الوحدوي الناصري، حسبما جاء في نص الاستقالة.
تزعم الأمم المتحدة أنها قدمت “الدعم الدبلوماسي والسياسي والتقني واللوجستي والمالي لعملية الحوار الوطني، من خلال فريق من الخبراء في العمليات الانتقالية”.
إلا أن المبعوث الأممي إلى اليمن جمال بن عمر “انحاز لبعض الأطراف، وتولى تحديد مسار القضايا المصيرية للحوار الوطني”، حسب ما خلصت إليه دراسة، يمنية هولندية، بعنوان “لماذا فشل مؤتمر الحوار الوطني اليمني الشامل 2013 في منع الصراع؟”.
يقول المذحجي لـ”يمن سايت”: “الاعتذار لصعدة والجنوب كان معنوياً”، لكن ذلك الاعتذار الذي لم يستند أصلاً على دليل، حال دون “معرفة الحقيقة”، المبدأ الرئيس لأية مصالحة ناجحة حسبما تؤكد أدبيات التفاوض، كما أسهم ذلك الاعتذار في تكريس ثقافة العنف وتمجيده.
ففي نيسان/ أبريل 2014، قال عضو المكتب السياسي لجماعة أنصار الله (الحوثيين) محمد البخيتي، لقناة “الجزيرة”، إن قتلى الجيش اليمني خلال حروب صعدة، بلغوا أكثر من 60 ألف جندي يمني. وهذا “رقم مبالغ فيه”، حسب مصدر عسكري طلب عدم الكشف عن هويته، إلا أن البخيتي الذي كان يبرر زحف جماعته نحو صنعاء، استند في تفاخره على الاعتذار الذي مرره مؤتمر الحوار.
استعرض معد التحقيق وثائق فريقي صعدة والقضية الجنوبية، ولم يجد ما يشير إلى أن الفريقين استخدما نهج الأدلة. وما تسمى رؤى المكونات حول جذور ومحتوى قضية صعدة، عبارة عن وجهات نظر إنشائية مليئة باللغة الاتهامية.
تقول أفراح الزوبة: “تحديد جذور قضيتي صعدة والجنوب تأسس على الفهم السياسي العام، ولم يعتمد على التقصي الميداني”، إلا أن رئيسة فريق صعدة نبيلة الزبير، اعتبرت وجود أعضاء في فريقها ينتمون إلى عمران وصعدة، بمثابة شهود. وعندما سألها معد التحقيق إذا ما كان لديها وثائق غير منشورة تؤكد اتباع فريقها منهجية تقصي الحقائق، لم ترد الزبير.
تفكيك ممنهج
يعد المحقق في “مكتب التحقيقات الفيدرالي” الأمريكي (إف بي آي)، علي صوفان، من أبرز الذين حققوا في حادث الهجوم على المدمرة الأمريكية يو إس إس كول (أكتوبر 2000)، في سواحل عدن، وهجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001.
انتظر صوفان أزيد من 16 عاماً ليكتب في 5 كانون الأول/ ديسمبر 2017 (بعد يوم من إعلان مقتل الرئيس السابق علي عبدالله صالح)، أنه، وعلى الرغم من ألاعيب صالح، وعدم ثقة الأمريكان فيه، إلا أن الحكومة الأمريكية لم يكن أمامها سوى التعامل مع صالح، الذي لم يكن على الأرجح يعلم أن نهايته ستكون بنهاية خصومه من آل بيت الأحمر.
ليست أمريكا فحسب، بل الأحزاب اليسارية والقومية التي قاتلت نظام صالح في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، تحت غطاء “الجبهة الوطنية الديمقراطية”، كانت تعتبر صالح، عدواً ثانوياً مقارنة بتنظيم الإخوان المسلمين، خصوصاً تياره القبلي السلفي ممثلاً بزعماء قبيلة حاشد الزيدية من بيت الأحمر، والشيخ عبدالمجيد الزنداني، واللواء علي محسن الأحمر، قائد المنطقة العسكرية الشمالية الغربية.
بعد هزيمة قوات الحزب الاشتراكي وحلفائه، في حرب صيف 1994، بدا اللواء الأحمر في أوج قوته، ومع ذلك لم تسجل محافظة صعدة الواقعة في نطاق سيطرته العسكرية، صدامات إلا عقب حادثتي المدمرة كول والناقلة ليمبرج، وهجمات 11 أيلول/ سبتمبر، عندما صار حلفاء الولايات المتحدة في الحرب ضد الاتحاد السوفيتي، ومنهم اللواء الأحمر والزنداني، متهمين بحماية جهاديين إسلاميين.
تظهر عشرات المواد المكتوبة والمصورة والسمعية، نشرتها جماعة الحوثيين (حركة أنصار الله)، قبل وبعد سيطرتها المزعومة على صنعاء، سياقاً مختلفاً عن الرواية الرائجة حول حرب صعدة. فتاريخ بدء جولة القتال الأولى المحدد رسمياً بمنتصف يونيو 2004، سبقته عمليات استهداف لنقاط أمنية عبر مجموعات صغيرة كانت تهاجم ثم تفر باتجاه “الدير”.
و”الدير” قمة جبل شاهق، يوصف بالاستراتيجي، ويقع في بداية خط الملاوي المتصل بمركز مديرية حيدان. وعلاوة على التحصينات الطبيعية للدير، شرع المتمردون في حفر خنادق وإقامة متاريس، وقطعوا الطريق عند أضيق نقطة لا يزيد عرضها عن 3 أمتار، وتطل على هاوية، أما الكهف المعروف باسم “جرف سلمان”، فاستخدمه حسين الحوثي غرفة عمليات لإدارة القتال، وفق ما قال مقاتلون حوثيون في تقرير تلفزيوني.
حلل معد التحقيق المعلومات المتاحة عما سميت حروب صعدة، بما فيها معلومات الحوثيين، ووجد أنه وبخلاف الحرب الأولى التي صنعت من مقتل حسين الحوثي كربلاء يمنية، تحولت جولات القتال التالية إلى حرب روتينية دفعت باتجاه رفع قوة الحوثيين إلى مصاف الأسطورة على غرار أساطير الجهاد الأفغاني.
عندما ظهر في صعدة نهاية آب/ أغسطس 2006، مدشنا حملته الانتخابية مرشحاً عن حزب المؤتمر الشعبي العام في الانتخابات الرئاسية، كان علي عبدالله صالح قد فك تحالفه بزعماء قبيلة حاشد من آل الأحمر وحزب التجمع اليمني للإصلاح، وشرع في تدعيم حضور الزيدية الهاشمية وحلفائها من التيارات القومية واليسارية داخل حزب المؤتمر الشعبي الحاكم، مدفوعاً ومستفيداً من رغبة الولايات المتحدة والغرب في تحجيم دور الجماعة السياسية والعسكرية التي يشتبه بوجود صلات لها بجهاديين.
يقول قيادي في حزب يمني، تحدث إلى معد التحقيق، بشرط عدم نشر اسمه أو ما يشير إلى هويته: “ما حدث منذ عام 2004، صراع استخدم الطائفية والانفصال لتحقيق أهداف سياسية توافقت عليها قيادات داخل الحزب الحاكم والمعارضة (اللقاء المشترك)”.
تتسق رواية مصدرنا مع رواية مصدرين آخرين، ومع منطق المواجهات العسكرية التي انحصرت ما بين الحوثيين وقوات اللواء الأحمر المتهم غربياً بحماية متشددين إسلاميين، في حين بقي الحرس الجمهوري الذي أشرفت واشنطن على تدريبه، على الحياد.
عندما حاصر الحوثيون اللواء 310 مدرع في عمران، منتصف عام 2014، طلب مجلس الأمن من قوات الأمن اليمنية أن تقف على الحياد. وعند سيطرتهم على صنعاء، دعا وزير الداخلية اللواء عبده الترب، المحسوب على حزب الإصلاح، قوات الأمن إلى التعامل مع أنصار الله باعتبارهم أصدقاء الشرطة.
لتأكيد روايته يستدل مصدرنا بما حدث منذ 2014 عندما صارت “قوات الجيش هي الحوثيين أنفسهم”. ويضيف: “باستثناء قتل قائد اللواء 310 مدرع، حميد القشيبي، المحسوب على الزنداني وقبيلة حاشد، لم ينتقم الحوثيون من بقية الوحدات العسكرية التي حاربتهم في صعدة”.
وعند سؤالنا إياه عن سبب بقاء قوات اللواء جهاد علي عنتر (شافعي جنوبي) ضمن قوات صنعاء الموصوفة بالانقلابية، وانضمام قوات اللواء عبدالعزيز الشهاري (زيدي شمالي) إلى قوات الحكومة الشرعية، على الرغم من أن عنتر والشهاري، كانا ضمن قوات الأحمر التي قاتلت الحوثيين في صعدة، رد مصدرنا:”يندرج ذلك ضمن تجسيد الوحدة الوطنية، وللتأكيد بأن الصراع ليس طائفياً”.
ما بين شهري حزيران/ يونيو وكانون الأول/ ديسمبر 2014، عقدت 3 أحزاب هي: المؤتمر الشعبي العام، الحزب الاشتراكي اليمني والتنظيم الوحدوي الناصري، مؤتمرات داخلية أفضت إلى توزع قواعد وقيادات كل حزب إلى فريقين: الأول يعارض انقلاب 21 سبتمبر، والثاني يؤيد الحكومة المعترف بها دولياً.
كما شمل تقاسم الأدوار مجلس النواب الذي تم التمديد له في صفقة أبرمتها الأحزاب اليمنية في شباط/ فبراير 2009، بالمخالفة للدستور اليمني.
ما جرى في صعدة ومؤتمر الحوار، تكرر مع التحالف العربي العسكري بقيادة السعودية والإمارات، الذي عمل منذ إطلاقه في آذار/ مارس 2015، على تدعيم سيطرة المجلس الانتقالي على الجنوب، وسيطرة “أنصار الله” على الشمال، ما يتوافق مع صيغة دولة اتحادية من إقليمين؛ المطلب الذي اتخذه الحزب الاشتراكي اليمني شعاراً لمؤتمره الداخلي المنعقد نهاية عام 2014.
وعلى الرغم من انتماء حوالي 80% من القيادات في سلطة صنعاء، إلى أحزاب تشارك أيضاً في حكومة عدن، حسب تحقيق استقصائي، إلا أن وسائل إعلام ومراكز بحوث وممثلين أمميين ظلوا يختزلون سلطة صنعاء في “أنصار الله”، بمعزل عن الأحزاب التي تستخدمها كواجهة. مكرسين بذلك أكبر عملية تضليل في تاريخ اليمن المعاصر.