تنقر أبرار الحناني (24 عاماً) بأناملها على مفاتيح البيانو، فتنبت للآلة أجنحة تطير بها في سماء تشف بنغمات بهية رقراقة، حتى ليخيل لسامع المعزوفة كأنه يرى جبال وسهول اليمن ترف وتحلق أعلى وأعلى من فوهات المتقاتلين الأبديين على المال والسلطة.
في اللغة الإيطالية تعني كلمة “بيانو” الرقة واللين، لكن وضع هذه الآلة التي اخترعها الإيطالي “بارتولوميو كريستوفوري”، قبل أكثر من 300 سنة، لا يبدو كذلك في اليمن، ففي هذا البلد الذكوري الذي يتسيد العود على مشهده الموسيقي، تبدو علاقة الحناني الحميمة بالبيانو حالة استثنائية.
بينما كانت النخب اليمنية تستقبل الألفية الثالثة بزراعة بذور العنف، كانت عائلة الحناني تحتفي بإنجاب طفلة موهوبة تعزف للحب والسلام. ففي بيت العائلة في صنعاء كان البيانو خير جليس لأبرار التي تشربت منذ نعومة أظافرها حب الموسيقى وقيم التعايش، وفق ما تروي لـ”يمن سايت”.
موسيقى بالحليب
في رواية “معلمة البيانو“، للنمساوية حائزة نوبل “إلفريده يلينك”، تجبر الأم المتسلطة ابنتها “إيريكا كوهوت”، على دراسة الموسيقى، ثم تدريسها غصباً على رغبتها، ما يوقع إيريكا في فخ الاضطراب النفسي، ويحولها إلى شخصية مازوشية.
على العكس من ذلك تماماً، كانت أم أبرار هي الوالدة الحنونة التي أرضعت طفلتها الحليب وحب الموسيقى معاً، بالإضافة إلى أختها الكبرى التي تجيد العزف أيضاً.
فالبيانو ونغماته كانا جزءاً من بيت العائلة، ففي هذا البيت بدأت أبرار العزف، وهي في سن الرابعة. وبعدها بسنوات كان البيت اليمني للموسيقى (مؤسسة غير حكومية) في صنعاء، البيت الثاني لها، والمكان الأكثر حباً، كما تقول.
تتذكر الحناني مشاعر الفرح التي انتابتها عند إعلان فوزها بالمركز الثالث في مسابقة العزف الانفرادي في الملتقى العاشر للأطفال العرب، الذي احتضنته في مارس 2009، إمارة الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة. كانت تلك أول مشاركة خارجية لأبرار التي لم تكن حينها قد تجاوزت سن العاشرة.
ذلك التكريم أعطى أبرار دفعة ثقة بموهبتها، كما أهَّلها للحصول على الإقامة الذهبية من دولة الإمارات، فئة المواهب، في 2021. فالطفلة المدللة صارت في واجهة الاهتمام الإقليمي. ويوم وصول الرئيس التركي السابق عبدالله جول، إلى صنعاء، يناير 2011، كانت أبرار، التي وصفتها وسائل إعلام بـ”أصغر عازفة بيانو” يمنية، ضمن جوقة من الفنانين والفنانات الذين استقبلوا الرئيس جول.
وإضافة إلى والديها، تدين أبرار، بالامتنان لمدير وأساتذة البيت اليمني للموسيقى، وفي مقدمتهم معلمتها، أنديرا عطشان، التي تدربت على يديها مهارة العزف وقراءة النوتة، ما أهلها للحصول على دبلوم في الموسيقى، بالإضافة إلى الأستاذ فؤاد الشرجبي، وصالح عايش. وعلى الرغم من أن تخصص أبرار الجامعي لغة إنجليزية، إلا أنها عملت معلمة موسيقى لمدة 6 سنوات في مدرسة خاصة في صنعاء.
نجمة “بلفقيه” و”لودفيكو”
لحظة صعودها خشبة مسرح دار الأوبرا في العاصمة المصرية القاهرة، في شهر مارس العام الماضي، للمشاركة في حفلة “نغم يمني على ضفاف النيل”، بدت أبرار أنيقة للغاية في لبسها ومشيتها، أناقة تعادل أناقة موسيقاها. إلا أن ميدلي، العمل الموسيقي الاحتفائي بتجربة المطرب الراحل أبو بكر سالم، يبقى أفضل أعمالها، كما تقول.
في “ميدلي” الذي وضعت أبرار فكرته، وتولت توزيع موسيقاه، قدمت الحناني مع عدد من المؤدين والموسيقيين الشباب، بينهم عازف العود هيثم الحضرمي، تحية إجلال وتكريم للفنان أبو بكر سالم؛ “قدوتي في الفن تماماً كما هو عازف البيانو والمؤلف الإيطالي لودفيكو إناودي، ملهمي الأكثر جذباً“، تقول الحناني.
خلافاً لعدد غير قليل من الموسيقيين والمثقفين اليمنيين ممن انخرطوا ضمن اصطفافات الصراع الدموي على السلطة، الذي يعصف باليمن منذ أزيد من ثماني سنوات، ترى الحناني في الموسيقى “ترجمة لمشاعر الإنسان، والتعبير عما يدور بداخله، فعندما تتوقف الكلمات عن البوح، ويقف اللسان عاجزاً، تنطق الموسيقى”.
في عملها الموسيقي المصور “رسالة سلام“، تظهر الحمامة على آلة البيانو، وقد أنست لنغمات العازفة الحناني. في هذا العمل الذي نُشر ربيع العام الماضي، وجهت الحناني وفريقها دعوة للتعايش في بلد تأبى نخبه إلا أن يبقى بركة دم.
على الرغم من انسداد الآفاق، تبقى الموسيقى بالنسبة للحناني ورفاقها “المتنفس الوحيد”، و”اللغة التي نعرف ونظهر للعالم بها، فهناك الكثير من الفنانين اليمنيين أصبحوا من مشاريع الوطن العربي والعالم، بسبب ما قدموه من فن رائع”، تقول الحناني التي ترى في الموسيقى ملاذاً “لتفريغ مشاعر سلبية مكبوتة خلفتها داخلنا الحرب”.
ووفقاً للحناني، فإن محدودية انتشار استخدام البيانو في اليمن، لا ترجع لصعوبة العزف على هذه الآلة، وإنما لندرة العازفين الذين يجيدون قراءة النوتات الموسيقية.
الحناني، التي شاركت ضمن لجنة تحكيم المواهب في “تيدكس صنعاء“، عام 2021، دعت إلى دعم النشاط الموسيقي في بلادها، خصوصاً في أوساط الأجيال الناشئة، وهي إذ تؤكد على أهمية التمسك بالأغاني اليمنية التراثية، مع حفظ حقوق الملكية الفكرية، فإنها تتمنى من الجهات المعنية الرسمية الالتفات إلى الموهوبين ونشر الثقافة الموسيقية، “لأنها لغة السلام والحب والتسامح”.
وفي مجتمع ذكوري مثل المجتمع اليمني، يواجه المشتغلون في مجال الفن والموسيقى قيوداً وصعوبات عدة. تتضاعف هذه القيود عندما تكون المشتغلة في هذه المهن أنثى. وتعترف الحناني أن أبرز الصعوبات التي واجهتها تمثلت في كونها فتاة، إضافة إلى عدم وجود جهات داعمة للشباب ولمواهبهم.
ولئن تشابهت وضعية المجتمع اليمني الراهنة مع البيئة الاجتماعية في رواية “معلمة البيانو”، التي تدور أحداثها في فترة صعود النازية في النمسا، إلا أن قصة أبرار الحناني، تخبرنا أنه لولا دعم الأهل لبناتهم ما كانت ظهرت ثمرة نجاح أبرار، بل ربما كانت وئدت في قبو “العيب والعار”.