يحظى “الأسود العنسي” بشهرة بالغة الحساسية والخصوصية في التراث الإسلامي، وإن كانت شهرة سلبية متأتية من كونه قام بأول وأكبر وأخطر حركة عسكرية ضد الإسلام في اليمن، في عهد النبي (ص) نفسه، وفي المقابل يرى فيه بعض المعاصرين، وباعتبارات أخرى. بطلا قوميا، حاول تحرير بلاده من النفوذ والتدخلات الأجنبية.
بيد أن شخصية هذا الرجل، على شهرتها، محفوفة بالكثير من الغموض، ومحل لتضارب المعلومات والآراء والتقييمات، والخلافات والاختلافات القديمة والحديثة، ما يبرر الحاجة لإعادة الاستقصاء حول كل شيء عنه، وعن الظروف الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي انبثق عنها، وتشكلت فيها شخصيته ورؤيته وحركته الشهيرة.
الصراع على السلطة
مع مطلع القرن السابع للميلاد. كانت اليمن تمر بفترة استثنائية من الاضطراب والتشرذم والاحتراب.. كنهاية لمرحلة منحطة مظلمة بدأت عام (575م)، بسقوط دولة “أبرهة الأشرم”، وتميزت بغياب تام للدولة، وتشظي السلطة، وتمزق البلاد إلى عشرات، إن لم يكن مئات الإمارات والمقاطعات والمخاليف الصغيرة، يحكمها عدد كبير من العباهلة والأقيال وبقايا الملوك القدامى.
الفُرس الذين جاءوا إلى اليمن من أجل السيطرة على الملاحة الدولية انتهى بهم المطاف معزولين في صنعاء تقريبا، وباتوا أحد مراكز القوى المتصارعة على السلطة والنفوذ، في ظل ضغائن وحزازات ونزاعات كانت سيدة الموقف في العلاقات بين مختلف مراكز القوى المتناحرة حينذاك.
في هذه الظروف الاستثنائية كانت دولة النبي(ص) في يثرب، قد اكتسبت سطوة وسمعة مهيبة على امتداد الجزيرة العربية، وبدأ نفوذها يتسرب مع الإسلام في اليمن، بسرعة عجيبة من خلال وسائل وأساليب عديدة، تتضمن الكلمة والسيف والبعوث والدعاة والرسل والرسائل. وسرّع في انتشاره الفجوات المفخخة بالعداوة والتربص بين أمراء الطوائف.
كان كلٌ من هؤلاء يحاول مد نفوذه على حساب الآخر، ويفد إلى يثرب بشكل منفرد، ليستقوي بهذه الدولة الفتية الصاعدة، ويعزز موقفه أو يمد مجال نفوذه، من خلالها، وكانوا يطرحون مشاكلهم أمام النبي الذي كان يقوم في الغالب بتثبيت كل منهم على ما تحت يديه، ثم يفصل بينهم في مناطق النزاع، ثم يعين على كل مخلاف عاملا من عنده تكون له السلطة الفعلية.
وهكذا أصبح النبي. على الصعيد السياسي، هو صاحب الكلمة العليا في اليمن، في أواخر عهد “باذان”، وعندما مات باذان ولّى النبي ابنه “شهر بن باذان” على صنعاء وأعمالها، وولى عددا من الصحابة على المخاليف الأخرى، وكان “معاذ بن جبل”، هو أكبر هؤلاء الأمراء الدعاة وجُمّاع الزكاة، ومن مخلاف الجند، يشرف على المخاليف الأخرى، وتُجمع الأموال لديه ليرسلها إلى يثرب.
وبطبيعة الحال. اصطدم الوجود الإسلامي في اليمن. ببعض الأقيال وكثير من الشرائح في هذه المخاليف التي لم تكن في أغلبها قد أسلمت، كما واجهت الجبايات المالية في العهد النبوي معارضة من الرعية الفلاحين، وفي الأخبار حديث عن انتفاضة في “حِمْيَر” تمكن معاذ بن جبل من إخمادها، فيما كانت اليمن موعودة بثورة “الأسود العنسي” كاستجابة لهذه الحيثيات المعقدة.
روايات متضاربة
ولد “الأسود العنسي” في منطقة “خُبان”، وهي منطقة قرب صعدة ونجران، وهو من “عنس”، وعنس من “مذحج”، ومذحج كما يقول علماء الأنساب، قبيلة قحطانية من صميم اليمن، غير أن “مذحج”، حاضرة في وثائق التاريخ اليمني القديم، كقبيلة عربية أعرابية موطنها وسط الجزيرة العربية.
كانت مذحج قبيلة ضاربة، ودخلت مع كندة ضمن تحالف شمالي سياسي، تابع سياسياً لملوك سبأ وحمير، واستمر هذا التحالف قرونا طويلة، قبل أن يتصدع متسببا بهجرة هاتين القبيلتين معا إلى الجنوب في القرون القليلة السابقة للإسلام.
يرد اسم “الأسود العنسي” في المصادر التراثية: “عبهلة بن كعب”، ورغم ورود اسمه أحيانا “عيهلة”، إلا أن هذا يبدو تصحيفا لاسم “عبهلة” الذي لا خلاف بين الرواة حول أنه اسمه الأول. مع أنه يبدو صفةً لا اسما، فهو من “عبهل” جمعه “عباهلة”، وهو مصطلح سياسي يمني قديم، كان يطلق على طبقة من الحكام ترادف الأقيال، وربما أطلقت عليه هذه الصفة بعد سيطرته على صنعاء.
وللرجل عند الرواة كنيتان إحداهما تصحيف للأخرى: الأولى هي “ذو الخمار”؛ قيل “لأنه كان دائما يغطي وجهه معتمًا متخمرًا بخمار”، ويضيف بعضهم أنه كان يغطي وجهه بسبب جماله المذهل، أسوة بآخرين كانوا يغطون وجوههم لنفس السبب.
الكنية الثانية هي “ذو الحمار”. قيل لأنه كان له حمار مدرَّب، يقول له: “اسجد لربك. فيسجد، ويقول له: أبرك. فيبرك”، ويبدو أن لقب “ذو الحمار” هو الأرجح، إذا كان الرجل قد ادعى النبوة فعلًا، لرمزية الحمار في التاريخ الديني المسيحي واليهودي باعتباره الحيوان الذي يُقبل عليه الأنبياء.
اشتهر الرجل بلقب “الأسود العنسي” قيل لاسوداد في وجهه، ما يوحي أنه ربما كان له علاقة خؤولة بالأحباش في اليمن، وقد يكون الأسود هو اسمه الأصلي لا صفة له، ففي العربية وربما اليمنية يُطلق الأسود اسما على أشخاص لا يشترط أن يكونوا سودا بالضرورة.
كان “الأسود العنسي” كما تقول الروايات ضخم الجسد قويا شجاعا، ورغم التشويه المفهوم الذي تعرضت له هذه الشخصية في الثقافة الإسلامية، لا تخفي الروايات أنه كان يتمتع بشخصية قوية جذابة مؤثرة، وكاريزما عالية، وقدرة مدهشة على الإقناع والقيادة.. ويخلب الألباب بحلاوة منطقه، أو حسب عباراتهم: “كان كاهنا مشعبذا يرى الناس الأعاجيب، ويسبى منطقه قلب من سمعه”.
بدأ الأسود العنسي حركته سنة 10هـ ( 632م) انطلاقا من قبيلته “عنس” “المذحجية”. تقول الروايات إنه ادعى النبوة، وهي دعوى أطلقت جزافا على معظم من قادوا حركات مناهضة لدولة الإسلام في تلك الفترة، لكن لا دليل على هذه الدعوى، بالنسبة للأسود العنسي، ولم تنسب إليه حتى على سبيل الانتحال، عبارات ادعائية، كالمسجوعات المنسوبة إلى مسيلمة الكذاب.
تقول الروايات أيضا وفي نفس الوقت. إن كلاً من المتنبئيَن: “الأسود ومسيلمة”، لقب نفسه بـ “الرحمن”: “رحمان اليمن”، و”رحمان اليمامة” على الترتيب، وهذا يعني أن كلا من الرجلين قام بادعاء الألوهية أيضا، وهو إما تناقض صارخ من الرواة، أو إيغال حد الجنون من الرجلين في الادعاء. فالرحمن كما نعرف هو الله نفسه، والاسم المرادف لاسمه، لكنه لم يكن معروفا أو مقبولا في الحجاز قبل الإسلام.
وفي الواقع كان الأسود العنسي من أتباع الديانة الرحمانية، وهي ديانة توحيدية كان “الرحمن” هو إلهها الواحد الأحد، ورغم أن هذه الديانة كانت في البدء ديانة توحيدية مستقلة، فقد تلبست بها اليهودية ثم المسيحية لاحقا في اليمن، وفيما يتعلق بالأسود العنسي. الأرجح أنه كان رحمانيا على الطريقة المسيحية.
لا دليل على أن الرجل كان قد أسلم، وبالتالي فإن إطلاق صفة “الردة” على حركته، ليس دقيقا، ويبدو أنه لم يكن يعبأ بمسألة الدين في صراعه مع دولة الإسلام، بقدر ما تهمه السياسية، ويتلخص هدفه حسب بعض تعبيراته، بتحرير اليمن من الدخلاء الأجانب، الفرس والمسلمين على السواء، وهو ما جعله بالنسبة لليمنيين، داعية لاستعادة الدولة القومية التي فقدوها منذ فترة ليست بالطويلة.
لسبب مفهوم يتعلق بإبرازه كشخص مرتد بلا قضية. ادعى النبوة، وحارب ضد الإسلام.. أغفلت مصادر التراث جوانب شخصية هذا الرجل، والدوافع السياسية والاقتصادية لحركته، وإن تعرضت بدقة للجوانب والابعاد الاجتماعية، وتحركاته العسكرية، وحيثيات اغتياله، كظهوره في البداية في قبيلته عنس، ثم اعتماده على قبيلته الكبيرة “مذحج”.
انطلاقا من هذه الحاضنة السياسية الاجتماعية الأولى، رفع الرجل شعارات وطنية وقومية، هي ما تفسر التأييد الواسع الذي حظيت به حركته في الأوساط اليمنية، وانتشارها بسرعة لافتة، على امتداد اليمن، وتمكنه من استقطاب كندة في حضرموت، والأزد غربا. وقبائل خولان في الشمال، وقبائل حمير في الوسط، وزبيد في الغرب.. إلى جانبه بسهولة.
وكان قد راسله “بنو الحارث بن كعب” من أهل نجران، “وهم يومئذ مسلمون”، كما قال المؤرخون، “فطلبوا منه أن يأتيهم في بلادهم، فجاءهم فاتبعوه، وارتدّوا عن الاسلام”، فاستولى عليها وطرد منها عامل الرسول “عمرو بن حزم”، ولعل بدايته من هذه المنطقة التي كانت عاصمة المسيحية في جزيرة العرب، وانضمام أهلها إليه. إشارة إضافية إلى أنه كان مسيحيا.
ومن نجران على الأرجح بعث الأسود رسالته الشهيرة إلى عمال الرسول في اليمن: “أيها المتوردون علينا. أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا، ووفروا ما جمعتم، فنحن أولى به، وأنتم ما أنتم عليه”.
تخلو الرسالة. كما هو واضح. من أي إشارة إلى أي مشكلة دينية، أو صراع عقائدي، وتبرز فيها النزعة الوطنية القومية، فتؤكد على أن مشكلة الأسود كانت فقط من عمال الرسول، فقد اعتبرهم دخلاء على اليمن، يتسلطون على اليمنيين، ويستولون بدون حق على أراضيه وثرواته، وأن اليمن أولى بأموالها، وأن على هؤلاء “الجُباة” العودة إلى أقوامهم، والاكتفاء بما هم عليه في بلادهم.
انتصارات وخيانات
ثم. بشكل عملي. توجه الأسود إلى صنعاء، وانتصر على “شهر بن باذان” وقتله، واستولى على المدينة التي فر قادة المسلمين منها، وفي صنعاء نظم الأسود دولته، فنزل قصر “غمدان”، وعين “قيس بن هبيرة المرادي” قائدًا للجيش، وفيروز الديلمي وداذويه، وهما من بقايا الفرس. وزيرين له، كما تزوج من “أذاد” أرملة قتيله “شهر بن باذان”، وهي ابنة عم فيروز.
ومن صنعاء أخذ الأسود يدعو لنفسه متذرعا بانتصاراته على الفرس والمسلمين، فالتحقت به كثير من القبائل وعشرات من البطون التي “كانت قبل مدة وجيزة قد أرسلت وفودها إلى مدينة الرسول”، ومن خلال دعوته وعسكره أستطاع الرجل خلال فترة قياسية أن يسيطر على منطقة واسعة تمتد من البحر الأحمر غربا، وبحر العرب جنوبا، وحضرموت وما بعدها شرقا إلى البحرين، على الخليج العربي، وصولا إلى حدود الطائف في الشمال، وقبيلة عك في تهامة غربي الحجاز.
لم يكن هذا التوسع عسكريا بالضرورة، بقدر ما هو في الأغلب قبول زعماء هذه القبائل والمناطق، بهذه الحركة، وإعلانهم التحالف معها, وهكذا يكون الأسود قد كوًن حينها أكبر دولة، ويمتلك أكبر قوة عسكرية في الجزيرة العربية.
وصلت هذه الأخبار إلى الرسول(ص) بعد حجة الوداع، وهي تعني أن جهوده التبشيرية والسياسية والعسكرية في اليمن خلال سنوات ذهبت هدرا، وبطبيعة الحال لم يقبل ولم يلجأ للخيار العسكري، فالأسود متفوق عسكريا، فكانت التدابير والحيلة السياسية حاضرة.
وهكذا أرسل النبي إلى عماله المتخفين في بعض الجيوب التي ظلت ثابتة على الإسلام في اليمن، يحثهم على الاستعانة بهذه الجيوب للقضاء على “رؤوس الفتنة”، بأي وسيلة، آخرها رسالة بعثها مع “وبر بن يحنس الأزدي” ” إلى المسلمين في اليمن “يأمرهم فيها بالذود عن دينهم، والنهوض للجهاد، “والقضاء على الأسود العنسي، “إمّا غيلةً أو مصادمةً”.
كما كتب النبي إلى بعض الزعامات اليمنية التي ما تزال مسلمة، وإلى بقايا الفرس “الأبناء” الذين رغم مجوسية غالبيتهم لديهم خصومتهم الخاصة مع الأسود العنسي.
وكان للأسود العنسي نقطة ضعف خطيرة. وهي ثقته غير المبررة بزوجته الموتورة التي قتل زوجها السابق للتو، وتمكينه لبقايا الفرس “فيروز وداذويه” الذين أطاح بسلطتهم المحدودة للتو أيضا، ثم أخيرا تشكيكه بولاء وإخلاص قائد جيشه “قيس بن هبيرة”.!
ويظهر أن هؤلاء الثلاثة الأخيرين، شعروا بنيته للنيل منهم، فاستبقوا الأمر، وتآمروا عليه، واستعانوا بامرأته “أذاد” زوجة “شهر بن باذان سابقا”، ونجح الجميع بتصفيته، وهكذا سقطت ثورة الأسود العنسي بأسرع مما صعدت.
يقال إن مقتل الأسود العنسي تم قبل وفاة النبي محمد بيوم واحد، لكن وصول الخبر من اليمن إلى المدينة استغرق أياما فوصل في خلافة أبي بكر الصديق في “آخر شهر ربيع الأول عام 11هـ/ شهر حزيران عام 632م”.
ولا بد أن الخليفة أبا بكر استبشر بخبر اغتيال هذا الخصم الكبير، لكن سرعان وصل إلى اليمن خبر موت النبي، وعلى الأثر، وكما عم الاضطراب مختلف أرجاء الجزيرة العربية، كانت اليمن على موعدٍ مع ما سُمي “الردة الثانية”.