عقب هبوط طائرة الخطوط التركية في مطار الخرطوم، فجر 8 نوفمبر 2017، مثل أمام الضابط المختص أربعة شبان بدا عليهم الإنهاك. سألهم الضابط: إنتو اليمنيين اللي جايين من تركيا؟ أجابوه: نعم! قال الضابط: “أنا أعرف قصتكم. مرحباً بكم في السودان بلدكم الثاني“.
ما يعرفه الضابط السوداني عن الشبان الأربعة أنهم أحتجزوا في تركيا بتهمة محاولة الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، أما القصة الكاملة فيرويها لـ”يمن سايت” مغني الراب يوسف عبدالجليل الأكحلي (ذو يوسوف)، أحد الشبان الأربعة الذين هتفوا في طهران بالصرخة (شعار الحوثيين): الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود. وفي مركز ترحيل في تركيا كانوا شهوداً على انتحار 3 مهاجرين أفغان، أحدهم نجا بعد إسعافه.
في هذه المقابلة التي أجريت معه في مدينة “جينتشون” الكورية الجنوبية، يروي الأكحلي الذي عمل في معسكر للجيش التركي كسخرة، عن كيفية تعامل دول العالم مع اليمنيين الهاربين من جحيم الحرب المستمرة منذ 8 سنوات، فمغادرة اليمني بلاده لا تعني النجاة ما لم يمتلك المال أو الدعم الحزبي.
“غيفارا” و”هتلر” في صلالة
في عام 2013 اجتاز الأكحلي الثانوية العامة بمعدل 93%. فتقدم للحصول على منحة لدراسة السينما؛ الحلم الذي طالما راوده، بيد أن فساد الأحزاب اليمنية التي تقاسمت السلطة بموجب المبادرة الخليجية، حال دون ابتعاثه، حسب ما يقول.
أما الفصول التراجيدية في حياة الأكحلي وحياة ملايين اليمنيين، فبدأت مع انقلاب 21 سبتمبر 2014 الذي فتح الأبواب لحرب أهلية هي الأسوأ في تاريخ البلد الأفقر والأقل استقراراً في المنطقة .
بعد أن بدا له أن الحصول على منحة أمر مستحيل، كان يريد يوسف أن يلتحق في جامعة خاصة بصنعاء تخصص نفط. إلا أن الجامعة سرعان ما أغلقت أبوابها إثر تعرض مبناها لقصف جوي أثناء “عاصفة الحزم”، وهي عملية عسكرية أطلقها في مارس 2015 تحالف عربي بقيادة السعودية والإمارات.
“أغلقت أمامي جميع الطرق، فقررت السفر إلى ماليزيا، لأنها هي الدولة الوحيدة المتوفرة في ذلك الوقت”، يقول يوسف الذي غادر في سبتمبر 2015 صنعاء إلى سلطنة عمان، في رحلة برية استغرقت 30 ساعة.
في ولاية صلالة التابعة لسلطنة عُمان، فتش جندي الحدود حقيبة يوسف، فوجد ثلاثة كتب بينها: “مذكرات تشي جيفارا”، وآخر عن هتلر، فقرر إيقافه، إلا أن ضابط المعبر تدخل، وسمح له بالمرور.
لم يكن يوسف يرغب أصلاً بالعودة إلى اليمن، لكنه فوجئ في مطار صلالة بمنعه من المغادرة، بمبرر أن خط عودته، سلطنة عمان، وهو ما لم ترغب فيه السلطات، لذلك فقد اضطر إلى دفع غرامة مقابل تحويل خط العودة إلى الأردن.
يوم شتمنا صدام
في ماليزيا حاول يوسف العمل في مطعم ودراسة السينما. لكنه لم يوفق، فعمل المطعم مدة 12 ساعة يومياً، يعطيه 300 دولار في الشهر، بينما كلفة الفصل الدراسي الجامعي الواحد 4000 دولار.
“شعرت بالإحباط وأنا أرى سنتين من عمري ضاعت في ماليزيا بدون دراسة، ففكرت بالهجرة إلى أوروبا عبر تركيا، ذهبت إلى السفارة التركية، لكنهم طلبوا إقامة لغرض غير السياحة، وهذا خيار صعب ومكلف”، يقول يوسف.
لاحقاً، تعرف يوسف على يمني يقيم في ماليزيا، زعم أنه “سيستخرج فيزا إلى تركيا مقابل 550 دولاراً أمريكياً للفرد، لكنه نصبهم، واختفى. “بحثت عنه لأشهر، وتواصلت مع أسرته في اليمن، واشتكيت لهم، ودخلنا معه بمشاكل انتهت بأن أهله تبرأوا منه و رجعوا لنا الفلوس” .
وفي ماليزيا أيضاً، تعرف يوسف ورفاقه بسمسار يمني يدعى ضياء، يقيم في تركيا (حالياً يقيم في ألمانيا)، يجيد الفارسية، ومتعاون مع شبكة تهريب بشر إلى تركيا عبر إيران، مقابل 600 دولار أمريكي عن الفرد، تدفع للمهرب عند وصولهم إلى الجانب الإيراني من الحدود الإيرانية التركية.
بموجب الاتفاق غير المكتوب، توجب على الشبان الأربعة السفر إلى إيران جواً بطريقة قانونية، بمبرر زيارة الأماكن الشيعية المقدسة، وهناك سيتولى مهرب إيراني يدعى خُمس، نقلهم براً إلى تركيا.
عقب وصولهم إلى طهران، يوم 27 سبتمبر 2017 التقط يوسف صورة للمكان الذي هم فيه، أرسلها عبر الإنترنت إلى المهرب خمس الذي بعث من يأخذهم إلى مكان يشبه الورشة.
في اليوم التالي سافر الشبان الأربعة إلى مدينة أرومية (شمالي غرب إيران)، كان مقرراً أن ينتظرهم هناك شخص من طرف المهرب، لكنه تأخر. لذلك حاولوا التقاط صورة للمكان الذي هم فيه لإرسالها للمهرب خُمس، إلا أن شرطياً شاهدهم، فاقتادهم إلى قسم الشرطة .
يتذكر يوسف أن محقق الشرطة سألهم عن جنسياتهم، فأخبروه أنهم يمنيون أتوا لزيارة الأماكن الشيعية المقدسة، “ثم سألنا هل نحن سنة أم شيعة؟ أخبرناه أننا زيود، فقال المحقق إذا أنتو سُنة اعترفوا نحن نحب السُّنة. ولكننا التزمنا بالخطة، وقلنا له نحن زيود. كان يعرض فيلم في التلفزيون عن الحرب العراقية الإيرانية، طلب المحقق رأينا بصدام حسين فشقدفنا (شتمنا) صدام. وعندما سألنا عن الحوثيين، قلنا له أبطال، وسيدهم عبدالملك أيضاً، وسألنا عن الصرخة فصرخنا، وهو صرخ معنا. “ابن الـ…” طلع حافظ الصرخة الغبية حقهم”، يقول يوسف وهو يضحك.
بعد أربع ساعات أطلقَ سراحهم، فقرروا الذهاب إلى فندق، إلا أن التاكسي أقلهم عبر طرق وميادين مكتظة بالناس المحتفلين بيوم عاشورا. وبحسب يوسف، فإن الفندق استغلهم، وأخذ منهم 100 دولار أمريكي مقابل ليلة واحدة، ومع ذلك “ما قدرنا نرقد، الناس في الشارع تقطع نفسها بالسكاكين، وتصيح يا علي يا حسين يا زهراء، حتى الفجر، ونحن في الغرفة نصيح يا علي يا حسين نشتي نرقد“.
في الصباح قدم من طرف المهرب سائق سيارة تولى نقلهم إلى مدينة تقع على الحدود التركية، في رحلة استغرقت حوالي سبع ساعات. في تلك المدينة التي لا يعرف يوسف اسمها، التقوا للمرة الأولى بالمهرب خُمس وجهاً لوجه، وسلموه المبالغ المستحقة مقابل تهريبهم، رغم أن الاتفاق على التسليم كان في تركيا، الأمر الذي اعتبره الأكحلي احتيالاً .
المهرب خُمس نصحهم بشراء بطاقة هاتف تركية وعملة تركية، كما طلب منهم التخلص من متاعهم، والاكتفاء بحمل ما خف وزنه.
تتشابه عملية تهريب يوسف ورفاقه عبر الحدود الإيرانية التركية، مع طرق تهريب البشر في بلدان أخرى، ومنها اليمن. عمليات التهريب عبر الحدود الإيرانية التركية، تنطلق بدءاً من الساعة 7 مساء. سلك خلالها المهربون طرقاً ترابية وعرة، وعند اقترابهم من الحدود يطفئون أنوار السيارة.
يذكر الأكحلي أنهم قطعوا سيراً على الأقدام، مسافات طويلة، قبل تجميعهم في وادٍ التقوا فيه بمهاجرين من جنسيات مختلفة، بينهم عراقي وسيدة سورية وطفلها .
انتظروا هناك إلى أن أتت سيارة هايلوكس أخذ سائقها ينادي على المجموعات باسم المهرب الذي تكفل بتهريبها.
عند وصول سيارة الهايلوكس إلى جوار نهر يفصل ما بين الحدود الإيرانية والتركية، طلب منهم مغادرة السيارة واجتياز النهر باستخدام “تيوب” -البطانة الداخلية لإطارات السيارات- يربط التيوب بحبل، ثم يرمى بطرف الحبل إلى الجهة الأخرى، ليقوم شخص واقف على الضفة الأخرى، بسحب الحبل .
يقول يوسف: “واحد من اللي معانا تعرض للضرب من المهرب لأنه ما عرفش يجلس فوق التيوب” .
بوصولهم إلى الضفة التركية من الحدود، بدأت رحلة جديدة هي الأقسى. “مشينا وجرينا من الفجر حتى حوالي الثالثة عصراً، بدون أكل وبدون شرب، وكل ما نملكه سجائر فقط”، يقول يوسف.
وحدث أيضاً أن لغماً انفجر بمهاجر، ما تسبب في بتر ساقه، واستنفار حرس الحدود، ولذلك طلب المهربون من يوسف ورفاقه الاختباء لساعات، قبل أن يعاودوا الركض نحو طريق إسفلتي قيل لهم إن عنصراً في شبكة التهريب يقود حافلة سينتظهرهم هناك.
محنة يوسف
ترد قصة النبي يوسف في التوراة والإنجيل والقرآن، كمأساة مقدسة، لكنها،وومع ذلك، لا تخلو من جوانب رومانسية، فبعد شتات وسجن تنتهي قصة النبي يوسف بملك وعيش رغيد، أما قصة يوسف الأكحلي فتبدو محكومة بالتعاسة منذ مغادرته صنعاء حتى استقراره في كوريا الجنوبية، وعودته مرة أخرى إلى ماليزيا .
في 30 سبتمبر2017، وصل يوسف وحوالي 19 مهاجراً من جنسيات مختلفة، إلى الأراضي التركية. حالما صعدوا الحافلة التي كانت تنتظرهم، استبشروا خيراً، بيد أن آمالهم سرعان ما تبددت عند أول نقطة للشرطة، فعندما أشار الجنود للسائق بالتوقف رفض الأمر، فأطلقوا الرصاص، لكن السائق لم يكترث بهم.
“كأننا في فيلم أكشن، لحقتنا سيارة شرطة، واعترضتنا سيارة شرطة أخرى، أطلقوا النار في الهواء، السائق توقف، واطفأ محرك الباص، وأخذ تلفونه نوع نوكيا، وسيجارته، ورفع يده وفتح الباب وقفز هارباً نحو الحدود الإيرانية، تاركاً الباص يهرول ليصطدم بسياج بجانب الطريق”، يقول يوسف.
طلبت الشرطة من الركاب البقاء في مكانهم، ثم ذهبت لمطاردة السائق، فانتهز عدد من الباكستانيين والأفغان الفرصة، فركضوا هاربين ولم يتبق سوى 9 بينهم اليمنيون وعراقي وامرأة أفغانية. حسب يوسف الذي يذكر قدوم مجموعة من عناصر الجيش، مدعومين بمدرعة اصطحبوا المهاجرين التسعة إلى ثكنة عسكرية .
وكشف يوسف لـ”يمن سايت”، عن استخدام الجيش التركي للمهاجرين غير الشرعيين كسخرة ” طلبوا منا القيام بحمل الحجارة وهدم متاريس قديمة وبناء متاريس جديدة محلها. كان العمل يبدأ في السابعة صباحاً، وينتهي في السابعة مساء، واستمر 12 يوماً “لكنهم في بعض الأحيان يرحمونا وكانوا يجيبوا لنا جبن وطحينية وروتي، وأحياناً العساكر يجيبوا لنا حبة سجارة وبيبسي”، يقول يوسف
في اليوم الثالث عشر سمح لهم بالاغتسال. ثم حضر من يعتقد أنه الضابط المسؤول، وأمرهم أن يوقعوا على أوراق كثيرة “لا نعرف ما هي لأنها كانت باللغة التركية، وكان عليها النسر الجمهوري اليمني. قال الضابط إنه سيبعثها إلى سفارة بلادنا، لكن سفارتنا ولا دارية من إحنا وفين إحنا، ولا اهتموا ولا عملوا شيء.”.
مساء 12 أكتوبر 2017، تم نقل المحتجزين بواسطة حافلة محروسة بعناصر من الجيش، إلى مدينة أرزروم (شمالي شرق تركيا، وتبعد عن إسطنبول حوالي 1234 كم). ليلتها فتح يوسف هاتفه وبعث رسالة نصية الى أخته سيناء في مصر. “أخبرتها أني بخير، لأنها الوحيدة من أسرتي عارفة أني سافرت تركيا. هي كانت تعتقد وكل أصحابي أني مت.”.
عند وصولهم إلى مدينة أرزروم، أدخلوا أولاً مشفى لإجراء فحوصات، ثم نقلوا إلى مركز أرزروم لاحتجاز وترحيل المهاجرين غير الشرعيين، وهو سجن كبير كما يصفه يوسف “.عاملونا أمام جنود الجيش بطريقة محترمة. وبعد انصراف جنود الجيش، تغير تعاملهم معنا 100 درجة“.
سكاكين أوروبا
توصف تركيا بحارس بوابة لمنع وصول المهاجرين غير الشرعيين إلى دول الاتحاد الأوروبي. لدى تركيا واحد من أكبر أنظمة الاحتجاز المتعلقة بالهجرة في العالم، حيث تقوم بتشغيل ثلاثين مركز ترحيل بسعة تقارب 18000 شخص، بالإضافة إلى مواقع الاحتجاز المخصصة في الحدود والمطارات ومراكز الشرطة.
يوجد في أرزروم مركزان للاحتجاز، يتكون القسم الذي احتجز فيه يوسف من أقسام كثيرة “القسم الذي سجنت فيه كان عدد المساجين فيه 50 شخصاً، والنساء والأطفال في أقسام لوحدهم، وفي ناس مساجين وزوجاتهم وأطفالهم مسجونين أيضاً، ولا يستطيعون مشاهدتهم“.
في القسم (ج1) من مركز الاحتجاز قيد يوسف برقم (0003526)، لاحظ سجناء كثر بأيديهم مسبحات صنعوها من نواة حبات الزيتون، سألهم عن فترات وجودهم في “السجن”، فأفادوا أنها تتراوج ما بين ستة وثمانية شهور، وبعضهم أكثر من سنة. ظن يوسف أنه لن يبقى هنا طويلاً، لكنه مع الأيام وجد نفسه وقد صنع مسبحة من نواة الزيتون، مازال يحتفظ بها.
يبدأ الروتين اليومي في مركز احتجاز أرزروم، بإيقاظ المحتجزين بواسطة “جرس يشبه جرس الحرائق، ثم يأتي الحراس يضربون بعصيهم على أبواب الزنزانات، صارخين: يماك يماك”، ومعناها طعام. ثم “يعملوا لنا طابور، ثم نذهب إلى قاعة الطعام، وبعدها طابور وتفتيش، وبعدها بخمس دقائق يخرجونا إلى الحوش نشم هواء، وإذا أردنا التدخين كانوا يعطونا سيجارة واحدة“.
بموجب اتفاق أبرم في مارس 2016، تحصل تركيا من الاتحاد الأوروبي على مليارات الدولارات مقابل تعاونها في مكافحة الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، وضبط حركة اللاجئين. إلا أن اتهامات بانتهاك حقوق الإنسان وجهت إلى تركيا، ما اضطر الاتحاد الأوربي، إلى خفض مساعداته لها واتهامها باستخدام المهاجرين ورقة لللابتزاز.
على الرغم من التفتيش اليومي الدقيق للمحتجزين، إلا أن ثلاثة باكستانيين، حسب ما يقول يوسف، تمكنوا من إخفاء سكاكين بلاستيكية تُستخدم أثناء الطعام، وذهبوا إلى أمام كاميرات المراقبة ونحروا أنفسهم في الحلق. مات اثنان، ونجا الثالث بعد أن تم إسعافه
وكانت تركيا شرعت ببناء جدارين عازلين بينها وبين كل من إيران وسوريا، إلا أن عمليات تهريب البشر عبر الحدود التركية لم تتوقف. ووفقاً للإحصاءات التركية الرسمية تصدّر الأفغان قائمة جنسيات المهاجرين المضبوطين في تركيا، خلال السنوات العشر الماضية، تلاهم الباكستانيون، ثم السوريون.
يتذكر يوسف حالة محتجز أفغاني عانى من ألم في معدته، كان يخرج إلى أمام الكاميرا يمسك بطنه ويتلوى، فيأتي العسكري ليدخله إلى الزنزانة، لكن الأفغاني يخرج مجدداً إلى أمام الكاميرا، “فعاد العسكري وأدخله إلى الزنزانة وضربه ضرباً مبرحاً“.
شعارات وإضراب
برغم عدم تدين يوسف، إلا أنه قرأ المصحف كاملاً أثناء فترة احتجازه. وذات يوم، اكتشف وجود عازل بلاستيكي أسود على باب الزنزانة، نزع قطعة منه واستخدمها للكتابة. كتب على جدار الزنزانة أغنية جوليا بطرس: “أنا بتنفس حرية“، وأغنية أبو بكر سالم “يوم سافرت سافرت مغصوب“، وكتب رقم أمه ورقم أبيه “لأنني كان خائفاً من أن تطول المدة، وأنسى“..
يذكر يوسف أحاديث عن وجود سجناء من دول أوروبا الشرقية، كانوا ذاهبين إلى سوريا والعراق للانضمام إلى “داعش”، كانوا في قسم آخر من السجن. وكان العسكر يخافون منهم، لأنه في مرة حصلت مشكلة فقتلوا عسكرياً داخل الحمامات. أما بالنسبة للإيرانيين المحتجزين في أرزروم، فزعموا أنهم سنة، مثلما ادعى يوسف ورفاقه في إيران أنهم زيود.
ذات يوم اتفق يوسف مع حوالي خمسين سجيناً، على تنفيذ إضراب عن الطعام، “وعشية يوم الإضراب، مررت على جميع الزنزانات، وقلت لهم إن الإضراب سيبدأ من الصباح، فقالوا تمام ..
في الصباح التالي، جاء العسكري وقال: “يماك أي فطور“، فرفضنا. فدخل علينا بالعصا وضرب، فطاروا كلهم، وذهبوا يأكلون، وبقينا فقط ثمانية أشخاص: أنا وصديقي عمرو الأشعري ويمنيان آخران والعراقي وثلاثة باكستانيين..
الأفغاني الذي هرب القلم والكراتين، علمني جملة بالتركية تعني “نحن الخمسة نريد مقابلة المأمور“، وعادنا نحفظها حتى اليوم: “بيشكشي مامور ملاكات إيستيوروم“.
جاء لي العسكري، وقال: “يلا أكل“، فقلت له: “بيشكشي مامور ملاكات إيستيوروم“، وهو يصيح، وأنا أصيح أكثر. وكنا نخرج إلى أمام الكاميرات، ونرفع الكراتين التي هربناها ثانيةً، وكتبنا عليها “الحرية” و”نريد الخروج”، وطالبنا بترحيلنا. فدخل العسكري، وأعادنا إلى الزنزانة، ومشى، فعدنا إلى أمام الكاميرات، فعاد ثانيةً وأخذ الكراتين منَّا.
انتهى وقت الفطور، وهرب لنا أصدقاؤنا طعاماً، فأكلنا معهم. جاء وقت الغداء، فذهبوا كلهم ما عدانا الثمانية، ثم جاء العسكري، وقال: “المأمور يريد مقابلتكم. نزلنا مع العسكري إلى غرفة مافيهاش كاميرات مراقبة، فاستشعرنا التوجس” .
عندما مثلوا أمام المأمور، تحدث يوسف نيابة عن زملائه قائلاً: “نحن هنا مش عارفين ليش حابسين لنا هنا، وقد حبسونا في المعسكر 12 يوم مع الأشغال الشاقة، وهنا يعاملونا بطريقة مش كويسة، ولم نرتكب أي جريمة، ولا نعرف ما الذي عملناه“.
سألهم المأمور ماذا تريدون؟ أجاب يوسف: “نريد ترحيل”. قال: خلاص، سنبحث عن الدولة التي يمكن تقبلكم، ونرحلكم إليها، قال يوسف: لا، نريد ترحيل إلى السودان فقط، فوافق “هذا بعد أن كان المأمور اعتدى بالضرب على العراقي والباكستاني“.
يذكر يوسف أنه وعلى الرغم من أن تذاكر الترحيل مجانية، إلا أن الضابطة المختصة طلبت منهم دفع 3000 دولار أمريكي لكل شخص. بعد التفاوض، استقر الطرفان على 100 دولار لكل شخص.
بوصوله إلى السودان، تنفس يوسف هواء الحرية، فبقي هناك لأكثر من شهر، انتابته خلالها مشاعر يأس وإحباط، وراودته أفكار الانتحار. في 19 ديسمبر 2017، سافر جواً إلى مصر، ليقيم لدى أخته سيناء، لكنه دخل في حالة اكتئاب، حسب ما يقول.
في 15 مايو 2018، غادر يوسف مصر إلى كوريا الجنوبية. وهناك عمل في مصنع للإسفلت، وتقدم بطلب لجوء إلى السلطات الكورية، إلا أنه لم يحصل على موافقة .
وعلى رغم قساوة العيش، إلا أن الأكحلي المعروف باسمه الفني “ذو يوسوف“، لم يتخلَّ عن شغفه بالسينما، فقد حصد فيلمه القصير “رسالة من القبر” المركز الأول من بين 17 فيلماً كوريًا شاركوا في مسابقة الأفلام “الثانية لسلام 4.3 جيجو”، المقامة في كوريا الجنوبية. الفيلم يدور حول مذبحة شهدتها جزيرة جيجو عام 1958. كما أنتج أثناء إقامته الكورية، ست أغاني راب منشورة على حساباته في يوتيوب وفيسبوك، بسببها تعرض للتكفير والتهديد بالقتل من قبل متشددين إسلاميين، حسب قوله.
في 15 أغسطس 2021، سافر يوسف إلى مصر. وهناك تلقى الصدمة الأكبر في حياته، وتمثلت بوفاة والدته المقيمة في اليمن، بتاريخ 24 أكتوبر الماضي. يومها بكى يوسف كمن يبكي انهيار العالم، لكنه لم يتخلَّ عن فكرة الهجرة إلى أوروبا. فرغم ختم السلطات التركية على جوازه بالختم الأحمر، إلا أنه استخرج جوازاً جديداً، وتمكن حينها من السفر من مصر إلى كوريا الجنوبية، عبر إسطنبول.
في 18 أغسطس 2022، وفيما كان في طريق عودته إلى كوريا الجنوبية، احتجز يوسف في مطار إسطنبول، ومنع من مواصلة رحلته، من دون أن تقدم السلطات التركية أسباباً، برغم أن إسطنبول مجرد محطة ترانزيت، حسب ما يقول الأكحلي الذي أفاد أنه تواصل مع السفارة اليمنية في تركيا، إلا أن السفارة لم تتدخل لحل مشكلته.
بعد يومين من الاحتجاز، أعيد يوسف إلى مصر، لكنه مع ذلك لم يفقد الأمل نهائياً. ففي 27 ديسمبر 2022، سافر مجدداً إلى ماليزيا، ومازال هناك حتى تاريخ نشر هذه المقابلة، على أمل أن يتمكن من الهجرة إلى أوروبا؛ الحلم الذي ما انفك يسيطر على عقول ملايين الشبان العرب والأفارقة الهاربين من بلدانهم الموبوءة بالفقر والحروب والديكتاتورية.