مُبللة بدموعها وعرقها، سقطت الحجة “فاطمة” مغمياً عليها، في يوم شديد الحرارة، وسط ذهول أفراد عائلتها، وعجزهم عن شراء قطعة من الثلج الذي صار سلعة نادرة في مديرية ردفان بمحافظة لحج، تباع في السوق السوداء بأسعار لا تقدر عليها العائلات الفقيرة.
غير فاطمة التي تشكو من مرض ضغط الدم، فقراء كثر مصابون بأمراض مزمنة، تدهورت صحتهم على خلفية ارتفاع درجة الحرارة التي تجاوزت صيف هذا العام الأربعين درجة.
وتزداد معاناة هؤلاء مع استمرار انقطاع التيار الكهربائي، وقلة المعروض من الثلج، وبيعه في السوق السوداء بأسعار وصلت في ردفان ومديريات أخرى إلى 14 ألف ريال للقالب الواحد، قياساً بمبلغ 6000، مطلع العام الحالي.
ردفان بديع القطيبي، مدير مديرية حبيل جبر، حمّل الحكومة مسؤولية بيع الثلج في السوق السوداء، قائلاً لـ”يمن سايت” إن “غياب الرقابة وعدم فرض عقوبات صارمة على تجار السوق السوداء، أدى إلى العبثية والاحتكار”.
ثلج للأغنياء فقط
وهذه المرة الأولى تقريباً التي يصبح فيها الثلج سلعة نادرة تباع في السوق السوداء، ففي الوقت الذي يعاني فيه ملايين اليمنيين ويلات حرب أهلية مستمرة منذ انقلاب سبتمبر 2014، تبدو مخاطر التغير المناخي بمثابة حرب موازية تطال أكثر ما تطال الفقراء والأشد فقراً.
وتنشأ السوق السوداء نتيجة عدم قدرة الإنتاج الوطني والاستيراد على تغطية الطلب الداخلي، فتظهر حالة سوقية يزداد فيها الطلب بشكل يفوق العرض، ما يؤدي إلى بيع المواد خفية وبأسعار عالية جداً. “وهذا ما نعانيه اليوم بزيادة الطلب الهائل على الثلج من قبل المواطنين، مع عدم قدرة المصانع على تغطية احتياجات المواطنين”، حسبما تشرح لـ”يمن سايت” مديرة تنمية المرأة في المجلس المحلي بمديرية ردفان، فائزة صالح يسلم علوي.
يقول صدام العُطري، مدير مصنع الثلج في مديرية ردفان، لـ”يمن سايت”: “إنتاجنا متواضع، ونقوم بتغطية مديريات ردفان الأربع عبر وكلاء ثابتين بالكميات المتاحة، وبأسعار ثابتة، رغم ارتفاع الصرف مؤخراً”.
ويضيف العطري: “لسنا مسؤولين عمن يقوم بالاحتكار أو رفع السعر وبيع الثلج في السوق السوداء. نحنُ نحاول تغطية احتياجات المواطنين قدر المستطاع، بما يناسب وضعهم الاقتصادي”.
لكن مستشار محافظ لحج للشؤون الأكاديمية الدكتور أمين العلياني، يقول لـ”يمن سايت” إن تخاذل الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، وعدم إمدادها المواطنين بالكهرباء، هو ما جعل المواطن يبحث عن سبل بديلة تمكنه من العيش، منها البحث عن الثلج في الأسواق السوداء”.
وبات تغيرُ المناخ التهديدَ الأكبرَ لحياة الإنسان، ويقول العلماء إن درجة حرارة الأرض ترتفع بشكل تدريجي بمعدل 0.85 درجة مئوية، وقد وصل هذا الارتفاع إلى 0.87 درجة مئوية في العام 2020.
وتتوقع الأمم المتحدة أن يؤدي تغير المناخ في اليمن إلى ارتفاع درجات الحرارة بين ١ و٤.٥ درجة مئوية قرب نهاية القرن، وزيادة تواتر هطول الأمطار الغزيرة، وبالتالي زيادة مخاطر الفيضانات والجفاف، وانخفاض الإنتاجية الزراعية.
يقدر عدد سكان محافظة لحج بحوالي مليون نسمة، موزعين على 15 مديرية. ووفقاً لمسح ميزانية الأسر المعيشية لعام 2014م، بلغ معدل الفقر في محافظة لحج 69% من عدد سكان المحافظة، ويعتقد أن هذا المعدل وصل خلال السنوات الماضية إلى 80%، حسب تقديرات الحكومة اليمنية.
مدير مديرية حبيل جبر، ردفان القطيبي، طالب بتوزيع الثلج “مجاناً على المواطنين”. موضحاً أن بيع الثلج في السوق السوداء “ليس وليد اللحظة، بل هو نتيجة تدرج بدأ بالمواد الغذائية وصولاً إلى الماء الذي يعد أساس الحياة، في مجتمعات فقيرة تكافح ضنك العيش تحت حرارة لا تُحتمل”.
يتذكر علي (21 عاماً)، وهو أحد شبان قرية “ودنة” في ردفان، معاناة والدته مع الحر الشديد أثناء صومها يوم وقفة عرفات في عيد الاضحى الماضي. مشيراً إلى أن الحصول على الثلج صار حكراً على الأسر الغنية القادرة على الشراء.
يقول علي لـ”يمن سايت”: قريتنا بعيدة عن السوق، ونحن أسرة فقيرة لا نملك المال لشراء الماء الكوثر، وحتى لو اشترينا دبة ماء كوثر تذوب قبل وصولنا البيت.
معاناة مزدوجة
الشيخ محسن القطيبي، شيخ قبيلة آل قطيب، إحدى قبائل ردفان، عد في حديث مع “يمن سايت”، ضعف خدمة الكهرباء سبباً رئيساً في ارتفاع سعر الثلج، مطالباً الحكومة “بتوفير الكهرباء للمواطن في ظل هذا الحر الشديد”.
ويصل انقطاع التيار الكهربائي أحياناً “إلى 20 ساعة في اليوم”، حسبما يقول لـ”يمن سايت” المعلم في مدرسة لبوزة الثانوية، ردفان محمد الوزير.
كما أدى ارتفاع درجة الحرارة وتزايد الطاب على المياه المثلجة إلى ارتفاع سعر علبة المياه المعدنية الصغيرة من 300 إلى 500 ريال.
وفيما لفت الوزير إلى وجود “استغلال للوضع الذي تشهده البلاد لصالح بعض بائعي الثلج”، ترى فائزة علوي أن ما يحصل “جريمة بحق الإنسان يحب ألا يُسكت عليها”.
ويتفق الذين تحدث إليهم “يمن سايت” على أن تخاذل وفساد الحكومة يعد سبباً رئيساً في تفاقم معاناة السكان الفقراء.
وكانت السلطات اليمنية حصلت في تسعينيات القرن العشرين على معلومات حول المخاطر التي تنتظر اليمن جراء التغير المناخي، إلا أن الحكومات المتعاقبة لم تتخذ أي اجراء، حسبما وثق تحقيق نشره “يمن سايت“.
ومع اندلاع الصراع وتقاسم القوى السياسية السلطة في الشمال والجنوب، خلت الساحة من المعارضة، وبات فقراء اليمن بلا صوت يعبر عن معاناتهم المتفاقمة يوماً بعد يوم.
ووفقاً لمستشار محافظة لحج الدكتور أمين العلياني، فإن وجود مصنع ثلج في ردفان “لا يكفي في ظل عدم توفر الكهرباء بشكل منتظم”، موضحاً أن وجود مصانع ثلج في لحج وعدن لن يحل المشكلة، نظراً للطلب الهائل الموجود في المدن.