تمارس أم عبدالله (٥٠ عاما) مهنة غسل السيارات بحرصٍ شديد، وتبدو منهمكة وهي تمسح أجزاء السيارة وتتفحص جميع جوانبها كي لا تسهو يدها عن إزالة كل الأوساخ الملتصقة بزجاج نوافذها. لقد أجبرتها الحرب على مزاولة هذه المهنة لكسب العيش كما أجبرت الكثير من اليمنيات على مزاولة مهن أخرى مشابهة.
تسببت الحرب في اليمن في خلق أوضاع إنسانية متردية، صارت تُعرف بأنها الأزمة الإنسانية الأخطر عالمياً، حيث بات 24.1 مليون يمني، من إجمالي عدد السكان، بحاجة إلى مساعدات إنسانية، وفقاً لبيانات وزارة التخطيط اليمنية، ولذات السبب طوى الفقر 80% من السكان، وتآكلت معه نسبياً الطبقة المتوسطة، وبخاصة شريحة الموظفين المعتمدة على مرتبها الحكومي كمصدر رئيس للدخل، وارتفعت معدلات البطالة إلى مستويات حرجة، وفي ظل ذلك تردت الأوضاع المعيشية لأغلب الأسر اليمنية، الأمر الذي دفعها إلى البحث عن بدائل للدخل، وتحملت المرأة اليمنية جزءاً من مسؤولية توفير الدخل والمشاركة في الإنفاق الأسري، وهو ما دفع بها إلى فخ آخر من التهميش الذي تعانيه في أوقات السلم، ويحد من حصولها على حقها في العمل، لتجد المرأة نفسها أمام العمل في مهنٍ لم تكن تقوم بها من قبل، وهي عادة ما تكون مهناً ظرفية لا يمكن أن تدوم، كونها تمثل حلاً مؤقتاً.
ما يجبر المرأة على القيام بأعمالٍ خارج الدورة الاقتصادية، وبإيرادات ضعيفة، هو النظرة الدونية والاحتقار لهذه المهن التي لا يرضى بها الرجال مهما ضاقت بهم الحال وانقطعت بهم السبل، فلا تجد المرأة من بد سوى الرضا بهذه المهن الصغيرة مكرهة ومدفوعة إليها دفعاً بعد أن نفر منها الرجال. مهنٌ شاقة وأجر زهيد
تمارس السيدة أم عبدالله مهنة غسيل السيارات بحرصٍ شديد، وتبدو منهمكة وهي تمسح أجزاء السيارة وتتفحص جميع جوانبها كي لا تسهو يدها عن إزالة كل الأوساخ الملتصقة بزجاج نوافذها.
هذه السيدة التي يزيد عمرها عن الـ50 عاماً، تحرص على كسب عملائها بعمل نظيف، وتقول إنها تبذل كل جهدها لكي تحافظ على زبائنها، فهي تخرج من بيتها بصنعاء في الصباح الباكر، وتظل تعمل تحت حر الشمس إلى الظهيرة، ثم تعود إلى المنزل بما يمكنها من توفير لقمة العيش لأسرتها.
أم عبدالله من بين الآلاف من النساء اللواتي اضطررن بفعل الحرب للعمل في مهن ينظر لها المجتمع على أنها مهن دونية، لكنهن وجدن أنفسهن أمام خيارين؛ إما البحث عن مصدر دخل والقبول بمهن دونية لا يرضى بها الرجال، أو الاستسلام للموت جوعاً، خصوصاً بعد أن فقد الكثير من موظفي الدولة رواتبهم منذ السنة الأولى للحرب، وانعدمت أمامهم فرص العمل الخاصة.
مهن بسيطة لحل مشاكل معقدة
سمية، شابة في العشرينيات من العمر، حرمتها الحرب من الالتحاق بالجامعة، هي اليوم إلى جانب والدتها تعوضان الأب والابن اللذين فقدا عملهما الحكومي، ولازما المنزل.
وتقول سمية إن والدتها وشقيقاتها يقمن في المنزل بعمل الكيك والكعك والحلويات والمخبوزات اليمنية، وتتولى هي مسؤولية البيع في دكانة لها في الشارع الذي يربط بين جولتي تعز والعمري بالعاصمة صنعاء، وتؤكد أنها أصبحت بائعة محنكة، وفي كل يوم تكسب المزيد من الزبائن.
ولا تخفي أن والدها وأخويها يعيبون العمل في مهن بسيطة، ويقولون إنه من الصعب عليهم كموظفين حكوميين، أن يعملوا في مهن دونية.
الناشطة وخبيرة الجندر سهى باشرين، تقول: “بلا شك أن الحرب ألقت بالعبء على النساء، واضطررن إلى أن يتحملن مسؤولية لم يكنّ مجهزات لها من ناحية التعليم أو التدريب، أو حتى التربية التي تركز على الاعتماد على النفس، الأمر الذي جعل الكثير من النساء يتجهن لممارسة أعمالٍ لديهن خبرة فيها حسب أدوارهن الإنجابية أو أدوارهن المعتادة داخل الأسرة، وعملت الكثيرات على تحويل العمل الذي كن يمارسنه بدون مقابل، إلى مصدر دخل، بمعنى أن النساء استثمرن مهاراتهن التقليدية في خلق مصدر دخل لإعالة أسرهن”.
بدورها، أفراح سُهيل -سيدة أعمال- تقول: “بسبب الحرب والصراع القائم في اليمن، أصبحت المرأة تزاول أعمالاً شاقة بدنياً وذات أجرٍ منخفض، بما فيها الأعمال التي كانت حكراً على الرجال، وذلك
لكي تغطي مصاريف المعيشة، كما أن البعض من النساء اضطررن للتسول في الشوارع، وأخريات وقعن تحت الاستغلال الجنسي”.
وعن الأسباب التي دفعت المرأة اليمنية للعمل في مهنٍ متعددة، وإن كانت لا تناسبها، تُشير سُهيل إلى أن فقدان المرأة اليمنية المعيل، وأيضاً وظيفتها، وانقطاع الرواتب، كان السبب الرئيس في دفعها إلى الصفوف الأمامية لمواجهة الأزمة الاقتصادية التي أحدثتها الحرب والصراع القائم.
تتفاءل باشرين بما تفرضه الحرب على واقع المرأة اليمنية التي استطاعت أن تخترق فضاءات جديدة كانت مغلقة دونها، واستطاعت بفضل رغبتها في إعالة أسرتها، أن تفرض نفسها باقتدار.. صارت تفتح دكاناً أو تبيع أو تغسل السيارات، وهي تتقدم شيئاً فشيئاً، لا أحد بإمكانه أن يلومها، فالجوع يتجاوز كل العادات والتقاليد، بل يكسرها، وتقول: “على قدر ما قد يكون العبء جانباً سلبياً، إلا أن له أيضاً جانباً إيجابياً، حيث إن الكثير من النساء لم يكن ليحصلن على هذه الفرص لولا تغيير وضع الأسرة بسبب الحرب، وبالتأكيد فإن النساء لن يتراجعن عما حققن من فرض أنفسهن في العمل، وأصبحن مُنتِجات”.
في السياق ذاته، تقرأ سُهيل خروج المرأة الاضطراري للعمل برؤية مغايرة، وتقول: “لا يُعتبر خروجها للعمل تحت هذه الظروف، تمكيناً للمرأة، وأمراً مخططاً له، وإنما اضطراراً بسبب ظروف الحرب، ويواجهن تحديات كبيرة، فهناك من استطعن فتح مشاريع صغيرة داخل بيوتهن، وأخريات فتحن مشاريع أخرى كمشاريع “كوفي شوب”، وواجهن تحديات إغلاقها من قبل سلطة الأمر الواقع بادعائهم أن ذلك عمل مختلط وحرام، ومن التحديات أيضاً على سبيل المثال هناك نساء كُن يعملن في وظائف حكومية، وبسبب الحرب اضطررن للخروج من اليمن إلى المجهول، وهناك من عليهن التزامات ضخمة كدفع إيجار المسكن وتوفير الغذاء لأطفالهن في ظل ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية وكافة الخدمات، وانقطاع الراتب والوظيفة، فضلاً عن غياب الأمن وكثرة عصابات القتل والاغتصاب والاختطاف، فكل الظروف الكارثية التي أحدثتها الحرب، دفعت ولاتزال المرأة ثمنها باهظاً”.
وضع اجتماعي دقيق
تقول نداء الشجاع، وهي باحثة اقتصادية: “لقد ألقت الحرب بظلالها السلبية على اليمنيين، وعملت على انحسار الفئة المتوسطة الدخل، وبذلك اتسعت رقعة الفقر، وأصبحت تستحوذ على ما نسبته 80% من إجمالي عدد السكان في العام الحالي، وفقاً لبيانات وزارة التخطيط اليمنية، وأصبح حوالي 24.1 مليون شخص في اليمن من إجمالي عدد السكان، بحاجة إلى نوع من أنواع المساعدات الإنسانية، وفقاً لإحصائيات ((OCHA”.
وتؤكد الشجاع، أن هذه التحديات فرضتها الحرب ويقابلها تخلي الدولة عن توفير الخدمات الأساسية للمواطن، بخاصة أن حوالي 90% من اليمنيين لا يحصلون على الكهرباء، وحوالي 19.7 مليون يمني بحاجة إلى المساعدة للوصول إلى الرعاية الصحية، وأكثر من مليوني طفل بحاجة إلى التعليم.
في ظل هذه التحديات التي تستوجب زيادة وتيرة العمل الإنساني في اليمن، إلا أن هذا العمل، وإن وجد، لا يلتزم بمبادئ العمل الإنساني الذي يحفظ للإنسان حقوقه وكرامته، لذا فإن الكثير من اليمنيين لا يبحثون عن المساعدات، كما هو حال أم عبدالله التي اختارت ألا تنتظر المساعدات الإنسانية من أية منظمة محلية أو دولية، وتقول إنها تعول على نفسها، ولا تقبل بأن تتلقى مساعدات وتصورها عدسات الكاميرا.
في الوقت الذي تتزايد الاحتياجات الإنسانية، يتراجع التمويل الدولي للإغاثة الإنسانية في اليمن، وتقول منظمة ((OCHA في بياناتها إن المبلغ المتلقى لتلبية الاحتياجات الإنسانية في اليمن يصل إلى 3.6 مليار دولار، من الاحتياج المقدر بـ4.2 مليار دولار.
هكذا يبدو الواقع صعباً أمام أم عبدالله، التي تبحث عن كسب الرزق بصعوبة، ومع ذلك فهي تصر على أن تعول نفسها، وتجاوز كل هذه التحديات.
- تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع غرفة أخبار الجندر الذي ينفذه مركز الإعلام الثقافي CMC