كيف عنّف الإمام أحمد حميدالدين أخويه عبدالله والعباس قبل الإعدام، وبماذا أثار والده حماس القبائل لاستعادة الحديدة من الإدريسي؟ ولماذا قال علي عبدالله صالح: إذا حلق إبن عمك بليت؟
ذي ما يجينا والبلاد مخافة .. لا مرحبا به والبلاد عوافي
يحفظ اليمنيون هذا المثل الشعبي ويفهمونه جيداً. ويقال إن الإمام يحيى حميد الدين، خاطب به شيوخ القبائل، مطلع العشرينيات، عندما كان يحشد لاسترداد مدينة الحديدة ومينائها وسائر جهات تهامة (غرب اليمن) من قبضة محمد الإدريسي، حاكم “صبيا”، عقب خروج الأتراك من اليمن.
يُستعمل هذا المثل في حالة الحرب، وتنطبق استعمالاته على فترة السلم والظروف الطبيعية أيضاً. إذ أن المعنى المكثف، لهذا المثل الآتي من أعماق تأريخ المجتمع اليمني، أن صاحبه يطلب النجدة والعون وشد الأزر، من الناس وخصوصاً الأصحاب، لإنجاح عملٍ ما أو لمواجهة أمر جلل.
“وكما يقول المصريون الصديق وقت الضيق، فإن الإمام يحيى (ملك اليمن من عام 1918ـ 1948)، قد أحسن استخدام هذا المثل لاستنهاض همم قبائل اليمن“
، إذ أنه من الناحية الشكلية الظاهرة يندرج في إطار التعبئة العامة، أو ما يعرف شعبياً في اليمن بـ”النفير العام”، لكن المثل أيضاً ينطوي على معنى عميق خفي، وهو أن المبادرين لتلبية تلك الدعوة، من وجهة نظر الإمام كـ”ملك”، سيكونون محط اهتمام وحظوة لديه بعد الحرب، في حالة أنجزوا النصر، بخلاف المتكاسلين الذين “لا مرحباً بهم والبلاد عوافي”.
وفكرة العون وطلب المساعدة، من الأمور الثابتة في المجتمع اليمني. حيث، يطلب الفلاح الواسع الأملاك، يد المعاونة من نظرائه صغار المزارعين، أن يهبوا لمساعدته في مواسم الحصاد واقتطاف الثمر، أو عند مواقيت “ذري” الأرض، وهم يسابقون نجمة سهيل. كما إن هذا المثل الشعبي يستخدم كعتاب شديد، عقب الشعور بالخذلان، ليحمل معنىً ضمنياً وغير مباشر؛ أنت لست صديقاً وفياً، حتى تحظى لدينا بالترحاب والحفاوة، لأنك لم تأتنا وقت اللزوم والشدة، وإنما جئتنا الآن عندما استتب الوضع وعادت الحياة إلى طبيعتها.
يندرج هذا المثل ضمن المستوى الرفيع، من الأمثال والحِكم اليمنية، التي تجري على ألسنة النخبة والأعيان ؛ إذ يستعمله عادة شيوخ القبائل لعتاب بعضهم، كجملة عتاب قاسية ولومٍ شديد، لا سيما عند الشعور بأن الصديق المقصود في معنى المثل كان مقصراً تجاه مقتضيات، في لحظة كانت تقتضي شد الظهر.
إذا حلق إبن عمك بَلَّيت
في 2011 عقب الإطاحة بالرئيسين التونسي والمصري، هرع الرئيس اليمني الأسبق علي عبدالله صالح، إلى قاعة مجلس النواب، محلوق الرأس، وقدم مبادرة سياسية تقتضي الترتيب لإنتخابات رئاسية وبرلمانية عاجلة، يستلزم معها أن تكون آخر فتراته الرئاسية، قائلاً:” إذا حلق بن عمك بليت..”، ومسح على هامة رأسه. (المعنى: إذا رأيت نازلة أو ضررا وقع على جارك فاعلم أنك هدفاً تالياً، ولذا: إذا حلق ابن عمك رأسه بلل شعر رأسك بالماء، وتجهز للحلاقة).
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي استحضر فيها صالح هذا المثل في سياق السياسة والحرب. فعلى إثر إسقاط نظام صدام حسين عام 2003، ظهر الرئيس الراحل وأطلق هذا المثل ناصحاً نفسه ونظراءه العرب بضرورة قيامهم بالتغيير من تلقاء أنفسهم ومحذِّراً نفسه وإياهم من أنهم قد يكونون التاليين بعد صدام.
ولئن كان هذا المثل اليمني، في شعبويته واضح الدلالة، فإنه من الناحية السياسية، يعكس التفكير الواقعي في شخصية الرئيس “صالح”، ليقول في ما معناه من خلال هذا المثل؛ أنه عازم بتصميم على مغادرة السلطة، ولكن ليس بالطريقة التي تمت مع زين العابدين بن علي ومحمد حسني مبارك. وإذا كان “صالح” قد استلهم هذا المثل عقب الإطاحة بنظيريه التونسي والمصري، فإن الرئيس مبارك، في خطابيه الشهيرين، قبيل تنحيه، قدم نفس العروض، عندما قال أنه “لم يكن ينتوي الترشح لفترة رئاسية جديدة”، رغم أن المثل الشعبي في مصر يقول أيضاً:” إذا حلق جارك بللت أنت”.
وفي حالة البيع والشراء تقتضي الحكمة إذا نزلت قرارات جائرة على التجار وشرع عددٌ منهم في تنفيذها أن يتبعه الجميع قائلين:” إذا حلق ابن عمك بليت”. وهكذا في حالات الغُرم ونزول النوائب بأحدهم، أو عندما يسن أبو العروس تكاليف جديدة وإضافية في المهر، على العريس، تصبح هذه قاعدة عرفية جديدة، يقتفيها الآخرون، وهم يشعرون بالمرارة ويتمتمون بهذا المثل.
ويعكس هذا المثل حساً إجتماعياً، وتلك إحدى مزايا المجتمع اليمني، إذ أنه ايضاً يعكس من الناحية الفعلية روح التضامن والعمل الجماعي، لاسيما في لحظات الخطر أو عند القيام بواجب كرم الضيافة أو في المناسبات الإجتماعية كمجالس العزاء والأعراس. وهو يتطابق مع مثل آخر أكثر وضوحاً:” ما أمسى في جارك أصبح في دارك”.
عِزّ القبيلي بلاده ولو تجرع بلاها
حياة اليمنيين مزدحمة بالأحداث والتجارب وضاجة بالحركة، وإذا كانت نسب الهجرة والإغتراب عن الأهل والوطن في اليمن مرتفعة، فإن روح اليمني تبقى معلقة ببلاده ومسقط رأسه، وهم يعبرون عن هذا الإنتماء القوي للوطن بقولهم: “عِز القبيلي بلاده ولو تجرع عناها”.
يعكس هذا المثل، الذي لا تُعرف بداياته، حالة حب الوطن. “فدون أن يعرف مواطنو القرية مذاهب الفلسفة السياسية، ودون أن يقرأ الفلسفة الوطنية والقومية عبر عن الوطنية أشمل تعبير بهذا المثل”، كما يقول عبدالله البردوني معلقاً على هذا المثل في كتابه “فنون الأدب الشعبي في اليمن”. ويضيف البردوني، شارحاً كيف إن هذا المثل انبثق من نار التجربة: “ومن حس معاناة الغربة، أو توقع الإغتراب، إذا نبت الدار بأهلها لأي سببٍ قاهر”.
كثير من الأمثال اليمنية لا نجد لها تأريخاً ولا بداية، والمثل الأخير كما يذكر الراحل عبدالله البردوني:” لابد أنه قيل بعد انهيار سد مأرب بوقت طويل أو قصير، لأن اليمني بعد هذا الحادث تكبد الأسفار وأصبح كالريح بلا أهل ولا قرار حتى قيل: تفرقت أيدي سبأ”.
واليمني، بطبعه، محب للأسفار والإغتراب والهجرة، سواء كانت هجرات داخلية من الريف إلى المدن الكبيرة، أو خارجية: هجرات الحضارم إلى شرق آسيا منذ القرن السابع عشر، وهجرات السبئيين إلى بلاد ما بين النهرين والشام، في قرون ما قبل الميلاد، فإن معاناة الهجرة ومشقة العمل والغياب عن الأهل وطغيان أرباب العمل، عززت لدى المهاجرين قيمة الوطن وحركت بداخلهم دوافع الشوق واللوعة، لذلك نجد في مراسلات المغتربين وذويهم وفي أشعارهم ومكاتيبهم وذكرياتهم أدباً قائماً بذاته. ومن الأمثال التي تعزز هذا التعلق الفريد بالوطن: “مال في غير بلدك لا لك ولا لولدك”. وبدون شك فإن هذه الأمثال تتردد على ألسنة المسافرين والمهاجرين في دول الجوار، ولا سيما في ظل موجات النزوح الكبيرة التي تشهدها اليمن بفعل الحرب وويلاتها.
الحرب إذا بات ليلة أضحت حباله تراخى
ينبثق هذا المثل من قلب المعارك، وهو لا يعكس رغبة في إطالة أمد الحرب بقدر ما يفصح عن تكثيف عميق يحكي تجربة غنية بقواعد الحرب ونفسيات المقاتلين. وإذا كانت اليمن، اليوم ناشبة في نزاعٍ محيّر، فإن أطرافه لا شك يفاضون ويتحاورون، لكن وهم محكومين بهذا الحس الحذر وفي رؤوسهم هذا المثل، الذي تناقلوه أباً عن جد. وهو، أي المثل، وإن كان يفصح عن معنى سلبي في ظاهره، إلا إنه وهذا الأهم ينطوي على إدراك ذكي لسيكولوجة الحرب ونفسيات المقاتلين في ميادين المعارك. ولعل هذا المثل، قد تشكل واكتمل من دورات الحروب التي خاضها اليمنيون سواءً مع الأتراك في القرن السادس عشر، أو في حملاتهم الأخيرة منتصف القرن التاسع عشر، عندما كانت العوائل التركية تطلق على اليمن “مقبرة الأناضول”.
لا يمكن ان ينبثق هذا المثل، من الحروب الصغيرة التي كانت تنشأ بين القبائل والدولة، في فترات العهد الجمهوري مثلاً، أو في فترات الملكية وعهود الإمامة، وقصص التمردات الشهيرة على إمام صنعاء: تمردات ناصر بن مبخوت الأحمر وابن شيبان في حاشد وحجة بداية عقد العشرينيات من القرن الماضي، أو تمردات الزرانيق في ما بعد، ثم تم سحق كل هذه التمردات القبلية. أما لماذا لا يمكن أن نضع محاولة تقريبية لبدايات هذا المثل؟ فالجواب: لأن قادة التمرد على السلطة في تلك الفترة هم مشائخ كبار، ويتحدرون من بيوت مشائخية ذائعة الصيت، ولا شك أنهم كانوا يدركون معنى المثل القائل:” حرب القبيلي على الدولة محال”.
وإذا كانت “حرب القبيلي على الدولة محال”، يأتي على النقيض من المثل السابق، حيث يستحيل للقبيلة بأفرادها المعدودين وسلاحها المحدود وإمكانياتها البسيطة، أن تنتصر على دولة، بكل ما لديها من إمكانيات وتجهيزات وسلاح ومال وجيش ومعلومات. لكن هذا المثل يعزز من القيمة الدلالية للمثل السابق “الحرب اذا بات ليلة أمست حباله تراخى”، وهي ؛ فلسفة الحرب عند اليمنيين وخبرتهم الطويلة بها.
ذي ما يفكر وعاده في البراح .. يوطّي ولو كان عالي مترسة
وتماشياً مع سياق الأمثال الشعبية المتعلقة بالحرب، فإن هذا المثل يتماشى مع الحالين: الحرب والسلم. ففي ظل الحرب، يتوجب على زعماءها، الذين أشعلوا شرارة البداية أن يشعروا بالندم، في حال الخسارة، لأن اليمنيون سيواجهونهم بهذا المثل:” ذي ما يفكر وعادوه في البراح.. يوطي ولو كان عالي مترسه”، والمعنى واضح: إن الذي لا يفكر طويلاً بنواتج وتوابع الحرب واستحقاقاتها ومآلاتها ويحسب بدقة كل شيء، فإنه سيندم وسيرضخ في نهاية المطاف ولو كانت حجته ومنطقه قوياً.
ويقال إن الإمام أحمد حميدالدين، صاح بهذا المثل في وجه أخويه عبدالله والعباس وهما مكبلين بالقيود أمامه، بعد انقلابهما الفاشل عليه سنة 1955، حيث نظر إلى سيف الاسلام عبدالله زعيم الحركة وصرخ في وجهه معنفاً:” ذي ما يفكر وعاده في البراح.. يوطي ولو كان عالي مترسه”، ثم أرسلهما من تعز إلى حجة ليتم هناك قطع رأسيهما بالسيف.
ويصح استعمال هذا المثل الرفيع، في نقد أي تصرف خاطئ، دفع بصاحب الفعل الذي وقع في براثن الخسارة، أي خسارة، إلى طلب المساعدة من الآخرين، الذين نصحوه قبل أن يقدم على فعل أمرٍ ما، ولم يستمع إلى صوت العقل والحكمة، فيقولون له بعد ذلك: “ذي ما يفكر وعاده في البراح.. يوطي ولو كان عالي مترسه”، (المعنى أن الذي لا يحسب ولا يفكر بالمآلات والنتائج الخطيرة، قبل أن يقدم على فعل أي عملٍ من هذا النوع، سوف يطأطئ رأسه في نهاية المطاف ولو كان في متراس عالي الارتفاع والتحصين، لذا كان يجب عليه أن يحسب بعقلانية حساب العواقب، ولا ينجرف مع العاطفة).
وإذا كانت العرب قد قالت: الحرب أولها كلام، فإن اليمنيين يقولون:” الهرج نص القتال”. وهم بهذا لا يقصدون “الهرج” وقت القتال، وإنما الكلام الاستباقي للحرب، مثل التهديد والتوعد وإظهار روح التحدي من خلال رفع الحماس وإطلاق الشعارات. وهذا المثل لا يعني “الهرج”، أثناء المعركة، لأن اليمني يعرف أن “صراخ المتقاتلين حال القتال دليل على الذعر لا على الشجاعة، لأن صفة البطولة الصمت وقت القتال لأنها حالة عمياء”، كما يقول البردوني.
ولذلك فإن الرد المعروف بين اليمنيين، على هذا النوع من التحدي والوعيد بالكلام، قول الطرف الآخر: “أنت من قوتك وأنا من ضعفي”. وهذا مثل آخر، يأتي دائما في سياق رد لغة التحدي. والمثل في ظاهره، ينطوي على حالة تشبه الضعف، لكن دلالته الضمنية قوية بمستوى أشد من التحدي الأول، أي يجب عليك أن لا تستهين بهذا الطرف الذي تعتقد أنه أقل منك مالاً و قوة.