قال لي أيقونة الشعر العربي عبدالله البردوني إن مالك العزاني (1919-2002) هو “مدرسة ذمار الشعرية”. ولمالك ديوان شعري عنوانه “ديوان شعر مالك بن عبدالله العزاني”، طبع في مطبعة السعادة، ميدان أحمد ماهر -شارع الجداوي، عام 1983، وقد منع توزيعه وتداوله في اليمن، لأن كل قصائد الديوان كانت حبلى بمواقف الشاعر المواكبة لأحداث وإرهاصات تلك الفترة (1949-1983)، وانحياز الشاعر لرؤية ومشروع الرئيس الراحل إبراهيم الحمدي.
في 1990 (أي قبل 32 سنة من الآن) أجريت مقابلة صحفية مع الشاعر الكبير مالك العزاني، لصالح صحيفة “الثورة” الرسمية التي نشرتها في صفحتها الثقافية.
كانت مقابلة تقليدية، ولم تنشر إلا لأنها كانت مغرضة، الغرض منها الحصول على تصريح من الشاعر عن قصيدة غنائية غزلية بديعة، عنوانها ومطلعها: “أيامنا بالحمى”، كان الخلاف حول كاتبها منذ سبعينيات القرن العشرين، حتى حسم أمرها الشاعر خلال تلك المقابلة بقوله: “أما القصيدة التي غناها ولحنها الفنان حمود زيد عيسى وأعاد غناءها أيوب طارش، تحت عنوان (من التراث)، فعلاً إنها تعتبر من التراث، لأني قلتها في زمن كنت فيه شاباً”.
لقد استعصى على كاتب هذا المقال الحصول على النص الصوتي الأول الذي لحنه وغناه حمود زيد عيسى، فمرجعنا لها هو النص الصوتي للفنان أيوب طارش، والنص الغنائي هو:
“أيامنا بالحمى ما كان أحلاكِ
كم بتُّ أرعاه إجلالاً وأرعاكِ
لا تنكري وقفتي ذلاً بمغناكِ
يا دارُ لولا أحبائي ولولاكِ
لما وقفت وقوف الهائم الباكي
***
فهل لهم عطفة من بعد ذلهمُ
تالله ما تسمح الدنيا بمثلهمُ
آه لقلبي على تمديد شملهمُ
ما كان أحلاك يا أيام وصلهمُ
ويا ليالي الرضا ما كان أضواكِ
***
يا منية القلب من بالصد أغراكِ
ومن برا قلبي الدامي بمنآكِ
وما درا أن سحراً في محياكِ
وأنها تفتن الدنيا بمرآكِ
لولاك يا دارها ما كنت بالباكي
***
هذا الغزال الذي قد كنت أعشقهُ
وفيه ما كنت في الأيام أنشدهُ
رأيته قد سبى قلبي تأودهُ
وبت أحسبني ملكاً حوت يدهُ
يا دارُ هلا تردي قلبي الشاكي
***
غيبت بدري فغاب الروح عن جسدي
وبتُّ أبكي ونار الوجد في كبدي
ما كنت يا دارها سجناً لذي غيد
كلا ولم يجرِ هذا البيت في خلدي
دعيه يشرقْ دوماً فوق مبناكِ
***
عصرية غير أن الحسن علمها
درس الصدود وللإغراء سلمها
دنت فكان كلون البرق مبسمها
وقد أشارت تُحيينا بمعصمها
فكان كالفلق الساري بفيحاكِ
***
انسي التقاليد يا سمراءُ وانطلقي
وحطمي القيد عن ساقيك وامتشقي
سيف الدلال وحطيه على عنقي
أنا الذي بسهام الحب صار شقي
طال المطال ولم أحظَ بلقياكِ”
في 2007، أي بعد 17 سنة من نشر لقائي الصحفي بالشاعر مالك العزاني، خرجت إلى النور الموسوعة اليمنية “موسوعة شعر الغناء اليمني في القرن العشرين”1، لتنسب إلى مالك تلك الغنائية، في المجلد السابع، ص514 وص515، بعنوان “أيام الحمى”، ومذيلة بلحن وغناء حمود زيد عيسى.
وبمقارنة نص القصيدة الغنائية في الموسوعة بالنص الصوتي للفنان أيوب طارش، وجدنا سبعة عشر خطأً كتابياً وطباعياً وفنياً. ومن المهم القول إن كاتب هذه السطور قام بكتابة النص الصوتي السابق بالشكل الذي ورد في الموسوعة، أي على هيئة مقاطع.
نعيم الإنترنت وجحيمها
قبل أسابيع اتصل بي الصديق علي أحمد السياني، يسأل عن مطلع غنائية مالك، فقد أراد الحصول على نصها. أخبرته بالمطلع، وقام بإدخاله عبر محرك البحث جوجل، فكانت الصدمة والصاعقة التي كسرت درع الفخر، وهدمت حصن الثقة بشاعرنا، عندما وجدنا أنها للشاعر الأندلسي أحمد بن علي بن خاتمة الأنصاري الذي عاش في قرطبة في القرن الثامن الهجري، وتضمنها ديوانه المعروف بـ”ديوان ابن خاتمة الأنصاري“، صدرت طبعته الأولى عام 1994، عن دار الفكر العربي المعاصر، بإذن من دار الفكر بدمشق، من تحقيق وشرح وتقديم د. محمد رضوان الداية، وفي ما يلي نص القصيدة ورسمها كما وردت في ديوان ابن خاتمة:
أيّامَنا بالحِمى ما كانَ أحْلاكِ
كم بِتُّ أرعاهُ إجْلالاً وأرْعاكِ
لا تُنْكِري وَقْفَتِي ذُلّاً بِمَغْناكِ
يا دارُ لولا أحِبّائي ولولاكِ
لَما وَقَفْتُ وُقوفَ الهائِمِ الباكِي
أحبابَ أنْفُسِنا كَمْ ذا النَّوى وكَمِ
ويا مَعاهِدَ نَجْوانا بِذِي سَلَمِ
تاللهِ ما شُبْتُ دَمْعي للأسى بِدَمِ
ولا لَثَمْتُ تُرابَ الأرْضِ مِنْ كَرَمِ
إلا مُراعاةَ خِلٍّ باتَ يَرْعاكِ
هَلْ مِنْهُمُ ليَ عَطْفٌ بَعْدَ دَلِّهِمُ
آهاً لِقَلْبي عَلى تَبْدِيْدِ شَملِهِمُ
تاللهِ ما تسمحُ الدُّنيا بِمِثْلِهِمُ
ما كانَ أحْلاكِ يا أيَّامَ وَصْلِهِمُ
ويا لَيالي الرِّضا ما كانَ أضْواكِ
يا بدرَ تِمٍّ تَجافَتْ عَنْهُ أرْبُعُنا
وَلم يَزَلْ تَحْتَوِيهِ الدَّهْرَ أضْلُعُنا
ما لِلنَّوى بضُروبِ الوَجْدِ تُوجِعُنا
إذا ذَكَرْتُ زَماناً كانَ يَجْمَعُنا
تَفَطَّرتْ كَبدِي شَوْقاً لِمَرآكِ
لعلَّ رَوْحَ الرِّضا يَدْنُو بِهِمْ وعَسى
فَيُثْبِتُ القُرْبُ ما بالبُعْدِ قدْ دَرَسا
كَمْ ذا أُنادِي وأشْدوا الأرْبُعَ الدُّرُسا
يا قَلبِيَ الصَّبَّ أيْنَ الصَّبْرُ عادَ أسى
ويا منازلَ سَلْمى أيْنَ سَلْماكِ
لا شك أننا أمام عملية سرقة، بل عملية سطو واضحة قام بها شاعرنا الكبير مالك العزاني، وفي غفلة من الجميع، وأنه استغفلنا لعقود. ولولا محرك جوجل لدامت الكذبة لعقود طويلة قادمة.
يجب علينا، بكل أسى وحزن وانهزام وشعور عارم بالعار، أن نقول: شكراً جوجل!
لكن مهلاً..
إن أغنية الفنان أيوب طارش، نصه الصوتي الذي جعل من مطلع غنائيته تتطابق مع مطلع موشحة ابن خاتمة الأنصاري، فمطلع الغنائية هو، بلغة اليوم، عملية قص ولصق للمثلثة الأولى من موشحة ابن خاتمة. لقد جعل أيوب طارش من شاعرنا لصاً وقحاً.
وباستثناء المقطعين الأخيرين (السادس والسابع)، فإن النص الصوتي مجرد تلاعب بالتراكيب وتغيير للألفاظ لا تنفلت ولا تغادر موشحة ابن خاتمة، بناءً، وموضوعاً، وعاطفة، وتكنيكاً.
نص مهجور
ثمة نص جديد، بل قديم مهجور، نص يكاد الكاتب يجزم بأنه نص القصيدة، بل الموشحة التي قام حمود زيد عيسى بتلحينها وغنائها، وقد تضمنها ديوان العزاني، في الصفحتين 122 و123. وهي التي يجب مقارنتها ومقاربتها بموشحة ابن خاتمة. وهذا نصها ورسمها:
“قيلت عام 1958
يا منية القلب من بالصد أغراكِ ومن برا قلبي الدامي بمنآكِ
وما درا أن سحراً في محياكِ وأنها تفتن الدنيا بمرآكِ
لولاك يا دارها ما كنت بالباكي
على الغزال الذي قد كنت أعبدهُ وفيه ما كنت في الأيام أنشدهُ
رأيته فسبا قلبي تأوُّدهُ وبت أحسبني ملكاً حوت يدهُ
يا دار هلا تردي قلبي الشاكي
غيبت بدري فغاب الروح عن جسدي وبت أبكي ونار الوجد في كبدي
ما كنت يا دارها سجنا لذي غيدِ كلا ولم يجر هذا البين في خلدي
دعيه يشرق دوماً فوق مبناكِ
يا فتية الحب هذا الدار قد منعت عنا الكواكب و[الأفلاك] إذ طلعت
وأصبحت معقلاً رحباً لمن سطعت بحكمها فكم من أكبدي قطعت
قوموا لننهب منها كل سفاكِ
[نقوم] الدار إذ فيها القلوب غدت محشورة عند حسناء التي ظلمت
شفاهنا من رحيق الخلد لو عملت تلك الحقوق لما بانت ولا منعت
يا دار عن وصلها أفواج جرحاكِ
عصرية غير أن الحسن علمها درس الصدود وللإغراء سلمها
رنت فكان كلون البرق مبسمها وقد أشارت تحيينا بمعصمها
فكان كالقلق الساري بفيحاكِ
عصر السفور بنات الحي فاعتبري أن التحجب قتّال لكل بري
وإن في الشمس حق الضوء للبشرِ فأشرقي بيننا يا شمس وانتظري
لتنفخي الروح في أجساد قتلاكِ
دوسي التقاليد يا سمراء وانطلقي وحطمي القيد عن رجليك وامتشقي
سيف الدلال وحطيه على عنقي أنا الذي بسهام الحب صار شقي
طال المطال ولم أحظَ بلقياكِ”
إن أول ما نلحظه عند مقاربة هذا النص (الموشحة) بموشح ابن خاتمة، أنه خالٍ من المطابقة، ويتخفف كثيراً من الاقتباسات النصية التي وجدناها في نص أغنية أيوب، وأن لها موضوعها أو غرضها الخاص (مطالبة الحبيبة وتحريضها على التحرر والتمرد على التقاليد).
لكنه لم يتفلت من بناء وقافية وأقفال مثلثات موشحة ابن خاتمة، وظل أسيرها، فهي المثال والأنموذج الذي سار عليها شاعرنا الكبير مالك الغزاني. بهذا النص يصبح مالك مقلداً. نعم. وهذا أفضل وأشرف من أن يكون لصاً.
استطراد خاطف
في الصفحة 522 ج 7 من الموسوعة، نجد غنائية بعنوان “جارة الوادي”، مطلعها:
“إني أحبك كم عذول لامني
كم مرة في الليل طيفك زارني
شرك الجمال نصبته فصادني
يا جارة الوادي طربت وعادني…”
هذه الغنائية الوحيدة في الموسوعة التي نسبت إلى مجهول، وغناها محمد جمعة خان. وهي غنائية شهيرة، لأن فيروز غنتها، باعتبارها من الموشحات الأندلسية.
[نوّم] كذا في الأصل.
[الأملاك] كذا في الأصل.
هوامش:
1 – “موسوعة شعر الغناء اليمني في القرن العشرين”، صادرة عن دائرة التوجيه المعنوي، الطبعة الثانية، صنعاء، 2007. المشرف العام عقيد ركن علي حسن الشاطر.
إدارة التحرير:
الأستاذ علي بن علي صبرة
الأستاذ عباس علي الديلمي
تحقيق النصوص وضبط اللغة:
د. عبدالله حسن البار
د. عبدالله طاهر الحذيفي
جمال عبدالله الرميم