على رصيف شارع في حي الرضوان بالقرب من مستشفى الثورة في مدينة تعز، وفي مشهد يعكس فظاعات الحرب المفتعلة التي تواطأت لتمريرها قوى يمنية وإقليمية ودولية، لأغراض لا صلة لها بطموحات الشعب اليمني، يقف الشاعر والباحث شجاع عمر القطابري (49 عاماً) خلف عربة تحمل اسمه، يبيع عليها بطاطا وبيضاً مسلوقاً و”سندوتشات”.
القطابري واحد من حوالي مليون موظف حكومي تتلكأ الأحزاب اليمنية التي تتقاسم السلطة في صنعاء وعدن، في صرف رواتبهم المتوقفة منذ 2016، في أسوأ أزمة إنسانية أنتجها ما يسمى انقلاب 21 سبتمبر 2014، الذي تُتهم الأمم المتحدة بالشرعنة له، ووضع 80% من السكان على حافة المجاعة.
“أنا أدفع ضريبة عدم انتمائي لأي تيار سياسي، كما أدفع ثمن مواقفي السياسية الرافضة للحرب واستمرارها على حساب المواطنين ومصادرة قوت الفقراء”، يقول القطابري لـ”يمن سايت”، داعياً من سماهم السياسيين والمسؤولين إلى “الانحياز للشعب ومصالحه”.
من الثلاجة إلى الشارع
غير القطابري، المولود في صنعاء، ملايين اليمنيين الفقراء بُحت أصواتهم وهم يشكون ما حل بحياتهم على مدى ثماني سنوات، من دون أن يجدوا مجيباً، حتى باتت حالهم أشبه بحال المستجير بالرمضاء من النار. ولولا فاعل خير بادر عبر “مشروع تمكين لأجل سبل العيش”، بالتبرع للقطابري لشراء عربة البطاطا وتجهيزها، ما كان القطابري تمكن من إنقاذ أسرته من الموت جوعاً.
لكن مثل هذه الأعمال الخيرية تبقى فردية ومحدودة، ولا تقدم حلاً جذرياً لمشكلة الفقر المزمنة. فعربة البطاطا مثلاً، لم تحسن من الوضع المعيشي للقطابري، حسبما يقول، مشيراً إلى صعوبات تواجه عمله الجديد، مثل ارتفاع أسعار البطاطا، وندرة غاز الطبخ وارتفاع أسعاره. والأسوأ أن عربة البطاطا تسببت في توقف المساعدة المالية الضئيلة التي كانت تصله من أشقائه، كما يشكو القطابري من مصاعب التقدم في العمر، بحيث أصبح أقل قدرة على الحركة.
قبل خوضه تجربة بيع البطاطا في الشارع، عمل القطابري في ثلاجة مركزية في مدينة تعز، وهو العمل الذي حصل عليه بتوصية من مدير مكتب الثقافة في تعز عبدالخالق سيف. ظل القطابري يحمل البضائع من وإلى الثلاجة، وبسبب برودة المكان أصيب بالتهابات في الصدر، ما دفعه إلى ترك العمل بعد أسابيع، حسب قوله.
وكان مدير مكتب الثقافة عبدالخالق سيف، أعلن منتصف ديسمبر 2019، على حسابه في “فيسبوك” أنه “تفاعلاً مع ما نُشر حول المبدع القطابري، وجه وزير الثقافة مروان دماج، براتب شهري من صندوق التراث والتنمية الثقافية، مع حوالة مالية عاجلة، و1000 ريال سعودي من سلطان الجواد، وجوال هدية و200 ريال سعودي من فاعلة خير”.
محنة التوحيدي
تصريحات مدير مكتب الثقافة جاءت عقب ما أثير على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل إعلام، حول معاناة القطابري الذي نفى لـ”يمن سايت”، صحة ما ورد في تصريحات سيف، قائلاً: “ما صرف لي من قبل الوزير دماج ليس راتباً، وإنما معونة مالية قدرها 20 ألف ريال، لكنها انقطعت بعد عدة أشهر، وقد تسلمتها من بنك الكريمي، ولمن أراد التأكد فليعد إلى إدارة البنك”.
ولم يتسنَّ لمعد التقرير الحصول على تعليق رسمي، إلا أن القطابري قال إنه مستعد أن يمثل أمام أية لجنة تحقيق تنظر في الأمر، ومستعد لتقبل أية عقوبة تصدر بحقه في حال ثبت كذبه.
ويعمل القطابري في صندوق التراث والتنمية الثقافية، وهو إحدى أذرع وزارة الثقافة. ومنذ تأسيسه في عام 2002، ظل الصندوق يجبي من المواطن اليمني رسوماً تحت غطاء التنمية الثقافية، إلا أن تلك الأموال البالغة ملايين الدولارات، كانت تذهب إلى جيوب قيادات وموالين للسلطات، في واحدة من ظواهر الفساد العميق، حسبما كشف تحقيق استقصائي نُشر عام 2020.
والقطابري أحد الشعراء والدارسين الذين استلهموا الموروث القصصي الشعبي، وتتبعوا جذوره منذ عصور ما قبل الإسلام وما بعده. لم يكتفِ بذلك، بل قام بهندسة ذلك أدبياً، وتحويله إلى أعمال روائية لم تخرج إلى النور، منذ التحاقه بالعمل في صندوق التراث والتنمية الثقافية، وبتكليف من وزير الثقافة الأسبق خالد الرويشان.
وصدر للقطابري في سنوات ما قبل الحرب، 6 دواوين شعرية، هي: “حنين الفراشة”، “صديق لشطر سماء”، “على مقهى النساء”، “للبحر قصة وحيدة”، “هكذا غنى العصفور”، و”رباعيات الحب”، فيما تبقى لديه 18 مؤلفاً ومخطوطاً ينتظر الطباعة، وهو ما لم يعد ممكناً في ظل التعامل الانتقائي لمكتب الثقافة في المحافظة، والذي تسلم مديره في وقت سابق مسودات لبعض الأعمال لطبعها ونشرها، لكنه أنكر في ما بعد تسلمه لها، وفق ما يقول القطابري.
ومن مؤلفات القطابري التي لم تنشر بعد، ديوانان شعريان بعنوان “النونيات”، و4 مجلدات معنونة “اليواقيت والمواقيت”، ومؤلف “وصليات الدهر” ومجلدا “الميميات وحديث المسك”، و”ليلى النونية”، وثلاثة أجزاء روائية بعنوان “عروس الحكمة”، إضافة لكتاب “البركان الأزرق”، و رواية “الجرجوف”، ورواية “وريقة الحنا”، ورواية “عدنان ذو الزبر”، و”كتاب المجنون والمكنون”، وديوان “إخوة الكهف”، وكتاب “آدم الأسماء”، وديوان “عفاريت الصلو”، حد قوله.
في فبراير 2021 ظهر القطابري على قناة الجزيرة مباشر، وهو يحرق بعض كتبه في ساحة عامة وسط مدينة تعز، في استعادة معاصرة لمحنة المثقف العربي مع الفقر والفاقة، ومثالها التاريخي الأبرز أبو حيان التوحيدي (922-1023م)، الذي قضى عمره يكتب دون أن يلقى تقديراً أو عوناً، ما دفعه في نهاية المطاف إلى حرق مؤلفاته.