قصتي مع الأغنية اليمنية بدأت حين شاهدت على إحدى القنوات الفضائية أبوبكر سالم بلفقيه، لأول مرة، وهو يدندن “شيبي متعب شبابي”.
وقتها لم أكن أعرف اسمه إلا أن حضوره الطاغي وانسياب صوته القوي مع الكلمة واللحن كان أمراً جديداً ومدهشاً بالنسبة لي، فأنا لم أعتد سماع مثل هذه الإيقاعات، حيث أن خزّاني الموسيقي كان جزائرياً فرنسياً ومصرياً.
فجأة صرت أتطلع إلى سماع بلفقيه وأسعى إلى اكتشاف المزيد من إبداعاته، إلى أن مررت بجلّ أغانيه المتاحة (عبر موقع يوتيوب سواء الحفلات والجلسات أو التسجيلات).
أداء بلفقيه كان دافعي إلى حب تراث بلد بأكمله. كان فعلاً صوتاً بحجم وطن (بالنسبة لي على الأقل).
مع المتعة يأتي الفضول ولَإن معظم كلمات الأغنية اليمنية مفردات عربية قحّة فقد وجدت صعوبة في فهم بعض ما جاء باللهجة اليمنية التي لم أعتد سماعها، مع ذلك وجدت أن الكلمة في الأغنية اليمنية نغمة في حد ذاتها حتى قبل أن تلبس اللحن.
جال مسمعي بين الطّبوع (الأنواع) الغنائية اليمنية المختلفة ومن خلال أجمل الأصوات أيضاً.
لست من العارفين في الموسيقى، ولكن شيئاً ما كان يدفعني إلى البحث عن أكثر الأغاني قِدما. إنها تحف فنية بامتياز. فسيفساء بتفاصيل مذهلة وغزيرة التنوع.
تحولت مكتبتي الموسيقية إلى مزيج من الحضرمي والصنعاني واللحجي، صارت جزائرية يمنية.
“الملالاة” نفّاذة وآسرة.. حين سمعتها لأول مرة وجدت فيها تقارباً مع الموّال الشاوي الجزائري القديم. كلاهما يحكي المعاناة وكلاهما يعتمد أساساً على خامة الصوت ويشعرك بانتماء حتمي إلى الزمان والمكان.
ميزة المطربين اليمنيين أنهم يستطيعون أداء نفس الأغنية بنغمات مختلفة، والأمثلة كثيرة، كما أن ارتجال معظمهم يكاد يكون ظاهرة قد لا نجدها إلا نادراً عند بقية المغنين العرب.
ثمة خاصية أخرى ينفرد بها اليمن، وهي أن معظم مطربيه عازفي عود، إلا أن العزف على العود في اليمن مختلف، فأنت حين تستمع إلى بعض الوصلات، خاصة في الصنعاني، تشعر أنها قادمة من أعماق التاريخ. أما إذا حضر المزمار فقد اكتمل الحضور.
لا زلت أعتقد أن رنات المزمار اليمني تحرك وجدان أي إنسان مهما كانت هويته.
أغانٍ يمنية كثيرة لا أملُّ من سماعها: “حي الربوع”، “وامغرد بوادي الدور”، “لقيته في المسقى”، “يا بروحي من الغيد”، “عيني لغير جمالكم”، “حيث حليت يا ريم اليمن”، وكذلك كل أغاني بلفقيه.
وأحياناً ما أجد تناغماً عجيباً بين وقع نغمات القنبوس والمدرجات الجبلية المخضرة. كما أجد انسجاماً لا يفسر بين عراقة القصائد القديمة، خصوصاً الشعر الحكمي وشموخ المدن المعلقة التي تشق العنان في مشهد مذهل.
للأسف لم يحظ الطرب اليمني بالمكانة الذي يستحقها في العالم العربي رغم عبقريته، ويجهل البعض أن أغلب ما يسمى بالأغاني الخليجية هو في الواقع يمني الأصل.
وإنها لمفارقة، قاهرة حد الوجع، أن يشهد هذا البلد الزاخر بالتراث وعمق التاريخ، حالة احتراب ودمار غير مسبوقة.