عندما أطلت فاطمة مثنى، ليلة 14 أغسطس الماضي، من على مسرح مكتبة الإسكندرية، لتؤدي بصحبة فرقة أم كلثوم الأوركسترالية، أغنية “أوعدك“، رائعة المطربة المصرية سعاد محمد، ليلتها لم ترَ الفنانة اليمنية الصاعدة أفق النهاية، فالنهايات بالنسبة لهذه الفتاة العِصامية هي بداية جديدة، وكل حلم يُنجز هو بروفة لسلسلة أحلام كبيرة لامتناهية.
هكذا تبدو فاطمة مثنى تواقة أبدية وكسارة إطارات، في صوتها الشجي كما في صورتها المسنودة بشقيقيها الحسن والحسين، فهذان الاسمان، وإن أحالا إلى رموز دينية إسلامية، إلا أنهما لا يعتبران صوت المرأة عورة برغم أنهما في الأصل منشدان دينيان.
وفاطمة هو الأخر اسمٌ مستمدٌّ من ذات القاموس الإسلامي، وتحديداً الشيعي بأيقونته الأبرز فاطمة الزهراء، بيد أن لا فاطمة ولا الحسن والحسين تجمدوا في إطار الأسماء ودلالاتها، على العكس من ذلك عمل الثلاثي الحسن والحسين وفاطمة، على كسر الإطارات الدينية والمجتمعية على السواء.
“هي” ليست “هم”
في حديثها إلى “يمن سايت“، تتذكر فاطمة تلك الأيام الصغيرة الباهية في عمران وصنعاء، عندما كانت لاتزال طفلة تتلو القرآن في المدرسة، وتؤدي في المناسبات الأناشيد الوطنية والدينية؛ لكن فاطمة التي تستعد لإصدار عمل جديد خاص بها من كلمات عبدالله الشريف وألحان الفنان مراد العقربي، تبدو صانعة نفسها بامتياز.
مثل فاطمة أطفال وشبان يمنيون كثر، من الجنسين، مارسوا نشاطاً فنياً في المدارس والجامعات، بيد أن عدداً قليلاً جداً منهم استطاع الاستمرار في شغفه الخاص، ومن هؤلاء القلة الصامدة على طريق الفن، تأتي فاطمة مثنى التي خاضت رحلة طويلة وشاقة، قبل أن تطل أخيراً لتغني على مسارح مصرية شهيرة، مصحوبة بفرقة أم كلثوم الموسيقية، بقيادة المايسترو محمد عبدالستار.
تؤكد فاطمة لـ”يمن سايت” وجود “صعوبات وعراقيل” واجهتها ولاتزال تواجهها، إلا أنها لا تأبه بها “أحاول ألا أراها (الصعوبات)، وألا أعيرها اهتماماً، كي أتجاوزها بسهولة، فعندما تنظرين للصعوبات والعراقيل بخوف ورهبة، ستفقدين جزءاً من قوتك، وقد تصلين لمرحلة الاستسلام”، تقول فاطمة.
و”في مجتمع إذا ما أتيحت له الفرصة للتدخل في شؤون بيتك الخاصة، لن يتركها. مجتمع يدّعي الفضيلة بالعلن، ويمارس الرذيلة بالسر”، حسب تعبير فاطمة، لا مناص من أن يتعرض شريكها للانتقاد لأنه تزوج “مغنية”، بيد أنه لا الزوجان ولا عائلتاهما أذعنوا لهذا المجتمع الطافح بالعنصرية.
تقول فاطمة: “هناك عنصرية شديدة في مجتمعنا. يطلقون أقبح التهم والألفاظ على من يمارسون مهنة الغناء أو التمثيل، وغيرهما من المهن الخدمية التي لا غنى عنها وعن دورها في المجتمع”. وتضيف : “العنصرية في بلدنا حاضرة، وزاد حضورها في السنوات الأخيرة”.
ولدت فاطمة في مدينة عمران عام 1991، قبل أن تنتقل إلى صنعاء مع عائلتها، وهي عائلة داعمة للفن، فوالدها “صاحب أذن موسيقية وذائقة فنية بديعة”، كما تصفه فاطمة التي تقول إنها اكتشفت موهبتها الغنائية في مرحلة طفولتها بداية من الإذاعة المدرسية، “حيث كنت أشارك بفقرة الإنشاد وتلاوة القرآن الكريم، وحينما سمعتني والدتي ذات يوم أغنّي، شجعتني كثيراً، ووقفت إلى جانبي”.
إلا أن دعم العائلة وحده لا يكفي، فثمة تجارب لأصوات نسائية تنتمي إلى عائلات فنية، لكنها لم تستطع أن تصمد أمام نظرة المجتمع إلى غناء المرأة. “لما كنت طفلة، كان المجتمع يغض الطرف عني لأنني أغني، وعندما كبرت وبدأت أظهر بشكل أوسع، واجهت صعوبات وعراقيل من المجتمع، والنظر إلى ما أفعله بأنه خارج عن العادات والتقاليد، وبأنني امرأة لا يجب أن يتردد صدى صوتها على مسامع الناس، لكنني انتصرت على ذلك وتجاوزته”، تقول فاطمة.
وقوة فاطمة في كسر النظرة النمطية للمرأة نابعة من فاطمة ذاتها لا من غيرها. “سر نجاحي هو ثقتي القوية بنفسي وبما أملك من موهبة، وأيضاً شغفي وطموحي وحبي للفن، وأجزم أنه حينما يحب الإنسان العمل الذي يقوم به، فسينجح حتماً”، تقول فاطمة التي بدأت الغناء وهي في سن العاشرة، كما شاركت بأغنية في مسلسل الأطفال الشهير ” كشكوش“.
ولفاطمة، كما يرشح من حديثها، شخصية صارمة لا تثق سوى بنفسها. “تعلمت ألا أثق بأحد، ومن المحتمل جداً أن صديق الأمس سيكون عدو اليوم (…). كما تعلمت ألا أعير اهتماماً لبعض الآراء التي يبديها البعض في أشياء لا تخصهم، وأن أبني مع البعض سقفاً محدداً للتعامل لا نتعداه”.
من تلاوة القرآن إلى “نصف القمر”
بحلول عام 2003، صارت التلميذة قارئة القرآن ومؤدية الأناشيد المدرسية، شابة ناضجة تطرق مرحلة جديدة تمثلت بإحياء حفلات الأعراس وإنجاز ألبومات، وأولها “نصف القمر”، وهو ألبوم زفة أعراس نسائية ظهر عام 2010.
وفي مجتمع محافظ تخبو فيه الفضاءات العامة، وتغيب المؤسسات الفنية والثقافية لصالح مقايل القات، اتجهت فاطمة لدراسة الإعلام قسم الإذاعة والتلفزيون، لأنه القناة المتاحة تقريباً التي ستمكنها من الإبقاء على موهبتها الصوتية.
مع اندلاع الحرب الأهلية التي يشهدها اليمن على خلفية انقلاب 21 سبتمبر 2014، تهاوت مؤسسات مدنية وأحزاب ووسائل إعلام إلى قعر الانقسام المجتمعي، ونفخت في كير الطائفية والمناطقية، يستثنى من هذا عدد قليل، ومنهم فاطمة مثنى. فبينما كانت الطائرات الإماراتية والسعودية تقصف صنعاء وصعدة، والقوات الانقلابية تقصف تعز والضالع، كانت فاطمة تشدو لليمن الكبير:
“أقسى شعور إن اليمن بعيدة الله يصيب من سبب المكيدة
أشتاق لك واكتب جواب بايدي يا من خضع لك شافعي وزيدي”
وهي “ملالاة” من التراث الشعبي التعزي، من كلمات محمد المقبلي، قدمتها فاطمة العام الماضي.
تقر فاطمة التي تقيم حالياً في مصر، مع حوالي مليوني يمني، معظمهم نزح بسبب الحرب، بوجود “سلبيات وإيجابيات للغربة”، لكنها ترى أن إيجابيات الغربة أكثر من سلبياتها. “الغربة تجعلك أكثر اعتماداً على نفسك، أكثر صلابة وقوة”، تقول فاطمة. مشيرة إلى أنها “أصبحت أكثر قوة واعتماداً على النفس، أكثر تحملاً للمسؤولية، وأكثر تنظيماً للوقت”.
وبخلاف يمنيين ويمنيات استهلكوا مسيرتهم الفنية في استجرار أغاني غيرهم، حرصت فاطمة أن تكون لها بصمتها الخاصة. وإضافة إلى تقديم أغانٍ تراثية بقوالب موسيقية جديدة، مثل “عودتني”، و”قد علموه”، سعت فاطمة مثنى إلى خلق هويتها الفنية الخاصة بها.
تقول: “فكرت مع نفسي متى أسوي الشيء الذي أرغب به، ومتى أغني الأغاني التي أحبها، وبلحني الخاص، وأقدمها للجمهور”. مشيرة إلى عدد من الأعمال الحصرية، ومنها أغنية “أغار عليك”، المنتجة عام 2020، وهي عمل ثنائي مع الفنان هاشم الحسني.
ولقيت “أغار عليك” شهرة واسعة، وحتى مطلع الأسبوع الجاري بلغ عدد مشاهدات الأغنية على “يوتيوب”، 5 ملايين و721 ألف مشاهدة، و85 ألف إعجاب. كما قدمت فاطمة برفقة شقيقيها الحسن والحسين، أعمالاً فنية احتفاءً بذكرى ثورة 11 فبراير الشبابية.
وكانت فاطمة انتقلت، عام 2021، إلى مصر، لتلتحق بالمعهد العالي للموسيقى العربية، لدراسة الفن العربي. في هذا البلد العريق في مجال الموسيقى والغناء، استطاعت فاطمة أن تبهر أقرانها، بمن فيهم بنات وأبناء مصر نفسها، وذلك بحصولها على المرتبة الأولى في سنتها التحضيرية.
تقول فاطمة: “كان حلم عمري أن أغني على مسرح عربي شهير، وجاءت فرصتي من مصر، بفضل الدكتور محمد عبدالستار (مدرسها في المعهد العالي للموسيقى العربية)، حيث أبدَى إعجاباً بصوتي، ورشحني لأغني في مسرح الإسكندرية، لأصبح أول يمنية تغني في مسرح مهم”.
وعلاوة على عملها الجديد بالتعاون مع العقربي والشريف، الذي قالت إنه “قيد الإنجاز”، تستعد فاطمة للمشاركة في حفلات ضمن فرقة أم كلثوم، كما جددت في أغانٍ قديمة صارت “تقريباً جاهزة”.
هكذا تبدو طموحات فاطمة مثنى لا حدود لها أو نهاية. “أهم أحلامي حالياً أن أظهر على أكثر من مسرح مهم هنا في مصر، وأن أقيم حفلات خاصة بي لتصل الأغنية اليمنية لمستوى عربي وعالمي”، تقول فاطمة التي صارت أماً لطفل قد يشاغلها، لكنه لا يثنيها عن شغفها الفني.
في حفلة الإسكندرية تداعى يمنيون مقيمون في القاهرة ومدن مصرية أخرى، لحضور حفلة فاطمة التي تطوع رجال أعمال يمنيون بتوفير حافلات تقل الجمهور اليمني. شبيه من ذلك حدث في حفلتها التي شهدتها القاهرة في سبتمبر الماضي.