نهار أول أيام عيد الأضحى وجدت أم أنس (38 عاما)، نفسها محصورة بين ثلاثة خيارات: قلعة القاهرة التي لا تفتح أبوابها إلا أحيانًا، وجبل صبر أو وادي الضباب؛ بينما يلح عليها أطفالها للذهاب إلى حديقة ألعاب؛ وهو مطلب صعب نظرًا لوجود حديقة ألعاب واحدة فقط لا تتسع للعدد الهائل من الزائرين كما سبق وشهدت الحديقة نفسها العام الماضي سقوط طفلة من إحدى الألعاب ما أدى إلى وفاتها.
عشرات آلاف العائلات في تعز المحاصرة منذ ثماني سنوات باتت غير قادرة على كسر نمط عيش فرضته الحرب عليها إلا في الحد الأدنى؛ فلا حدائق ولا متنفسات تفي بحاجة العائلات التوَّاقة لإحياء طقوس العيد، ما يضعها أمام خيارات محدودة وإضطرارية للترويح عن نفسها في هذه المناسبة الدينية.
كابوس وعذاب
قبل اندلاع الحرب الأهلية التي يشهدها اليمن على خلفية ما يسمى انقلاب 21 سبتمبر 2014، اعتادت أم أنس زيارة حديقة “دريم لاند” في الحوبان؛ كان الوصول للحديقة يستغرق ربع ساعة، أما الآن فالأمر مستحيل، فمع استمرار إغلاق الطرقات للعام الثامن على التوالي “لم يعد أولادي يريدون العيد يجي، يشوفوا العيد كأنه كابوس وعذاب”. تقول أم أنس لـ” يمن سايت”.
وبات جبل صبر المطل على المدينة وجهة شعبية يقصدها السكان للتنزه وقضاء أوقات الأجازة وفي المناسبات. تنتشر في الجبل غرف تقليدية تؤجر لقضاء أوقات النهار، كما توجد في الجبل منتزه زايد، المرفق السياحي الأكبر، والذي وعلى رغم تعرضه لتدمير جزئي بسبب القتال إلا أنه مازال مقصدًا للزائرين.
يقول لـ” يمن سايت” المدير السابق لحديقة جاردن سيتي، نبيل الجعفري، أن التزاحم على المتنفسات الطبيعية كجبل صبر ووادي الضباب، يعكس رغبة سكان تعز في التغلب على الظروف القاهرة التي تثقل كاهلهم؛ لافتًا إلى أن إغلاق الطريق الواصل بين المدينة والحوبان قطع شريان الحياة للسكان. وكذلك طريق تعز-البرح-المخا المنفذ الوحيد لسكان تعز للوصول إلى البحر.
حبيسة الميليشيات
وتعز أكبر المحافظات اليمنية في عدد السكان، وهي العاصمة الثقافية للبلاد، كما توصف بالحاضرة المدنية الأولى في شمال اليمن، بيد أنها باتت الضحية الأكبر للحرب الراهنة، وهي حرب ما كانت لتندلع أصلاً لولا تعمُّد النخب السياسية الفاسدة لإشعالها حسب دراسة للمؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات.
وعلاوة على تمزُّق أوصال تعز ما بين حكومتي صنعاء وعدن وميليشياتهما، تواصل حكومة صنعاء غير المُعترف بها دوليًا، حصار المدينة من ثلاث جهات، ما جعل المدينة “أشبه بالسجن” حسب تعبير أم أنس وآخرين.
ويرى الجعفري أن المتنفسات الصغيرة التي تقصدها العائلات حاليًا لا وجود لها على خارطة المتنفسات المخططة، ولا تنطبق عليها المعايير، “غير أن السكان يبحثون عما هو متاح لقضاء بعض الوقت خارج جدران منازلهم التي غدت بفعل الحصار أشبه بالسجون الموحشة”.
ووفقًا للجعفري فإن المستثمرين يعزفون عن الاستثمار في هذا المجال نظرًا لعدم وجود مساحات مناسبة ضمن مخطط تقسيم المدينة، ولعدم وجود تشجيع وتسهيل من قِبَل الجهات الرسمية، فضلاً عن صعوبة استيراد الألعاب وقطع الغيار من الخارج، وكذلك عدم استقرار العملة وعدم توفر الحماية الأمنية.
وبرغم تدهور الوضع في تعز على مختلف الصُعد إلا أن مدنيين كثر ما زالوا يتشبثون بالحياة ويسعون إلى ابتكار الفرح. ولو كان في “أماكن عادية ليس فيها أي مقومات أو عوامل جذب” حسب ما يقول ل”يمن سايت” الصحفي سامي نعمان.
وخلال أيام العيد شهد ملعب كرة القدم المعروف باسم “ميدان الشهداء” حفلات غنائية راقصة أحياها عدد من الفنانين ويكرم المهرجان هذا العام الفنان محمد محسن عطروش، مؤدي النشيد الوطني الشهير “برع برع يا استعمار”. الذي بُثَّ أول مرة في ستينات القرن العشرين من إذاعة تعز.
وكان مكتب الثقافة قرر نقل أنشطة “مهرجان تعز العيدي” من قلعة القاهرة إلى ميدان الشهداء بعد وفاة شخص العام الماضي بانهيار صخري أثناء إقامة مهرجان تعز بنسخته الخامسة.
ولئن شهدت تعز بعض الاستقرار الأمني قياسًا بسنوات مضت إلا أن الحريات العامة والفردية ما زالت في انكماش. واشتكى زوار لجبل صبر من قيود تفرضها السلطات على الذين يقصدون الجبل مع زوجاتهم أو خطيباتهم. وكان رجل الدين المثير للجدل عبدالله محمد العديني شَنَّ حملات على ما أسماه مظاهر اختلاط.
ومطلع الشهر الجاري دخلت نقابة هيئة التدريس في جامعة تعز على خط المناصرة للعديني بقولها إن برنامج الماجستير في النوع الاجتماعي (الجِنْدَر) مخالف للشريعة الإسلامية حسب ما جاء في بيان منسوب لها.
وبحسب الصحفي نعمان فإن وضع المتنفسات في مدينة التُّرْبَةِ، مديرية الشَّمَائِتِيْنِ، يبدو أفضل حالًا بكثير من مدينة تعز. ويلوم نعمان سلطات تعز على تأجيرها للحديقة الحكومية “جاردِنْ سِتِّى” للقطاع الخاص. مشيرًا إلى أن “حدائق الصالح في منطقة الضباب أصبحت مكبًا للنفايات”.
ويحلو لسكان تعز وصف مدينتهم بالحالمة بيد أنها في الواقع صارت “كابوسية بامتياز” حسب ما يقول ل”يمن سايت” الموظف الحكومي أحمد سيف (56 عامًا) الذي يتذكر كيف كانت مدينته في ثمانينات القرن العشرين “فعلى الرغم من سطوة الجماعات الإسلامية حينها المدعومة محليًا وإقليميًا ودوليًا لمواجهة الشيوعية إلا أن تعز كانت تضم حينها 5 صالات للسينما يرتادها الرجال والنساء كما كانت هناك مدارس مختلطة ومع ذلك لم نسمع صرخات مجنونة كالتي نسمعها الآن” يقول سيف.
وعلاوة على الأحزاب اليمنية التي تتقاسم السلطة في الشمال والجنوب تُتهم الأمم المتحدة أيضًا بالتواطؤ في تمزيق المدن الأكثر مدنية. فمنذ انعقاد أولى جولات المفاوضات في سويسرا (ديسمبر 2015) ظلت قضية رفع الحصار عن تعز وفتح الطرق الموصلة إليها ضمن جدول أعمال المفاوضات. كما خصص اتفاق ستوكهولم (ديسمبر2018) ملحقًا خاصًا بتعز وقد تم تنفيذ معظم ما اتفق عليه باستثناء رفع الحصار عن تعز.
ويرى سامي نعمان أن من الضروري صيانة قلعة القاهرة لتبقى رمزًا حضاريًا لتعز، مفتوحة طوال العام ودعا إلى إخراج التشكيلات العسكرية من المتنزهات وتشجيع المستثمرين في مجال الترفيه.