انطفأت روح الطفل سامي منصور (9 سنوات) في لحظةٍ فارقةٍ بعد أن قاوم، لأيام، فيروس حمّى الضنك، فبينما كان والداه وشقيقتاه اللتان تصغرانه في العمر، ينتظرون بصيصَ أملٍ يرد إليه العافية، فجأة حلّت بهم صدمة الفراق، وعمّ الحزنُ منزل العائلة الواقع في حي “الضربة” بمدينة تعز (جنوب غربي اليمن).
مع موسم الأمطار تنتعش ضراوة الفيروس الذي يغزو المدينة كل عام، إذ يتعين على السكان ترقب الموعد واتباع المحاذير للوقاية منه قدر ما أمكن؛ لكن أسباباً كثيرةً تحول دون القدرة على كبح انتشار الفيروس الفتّاك، الذي تسبب هذا العام بوفاة 5 أشخاص وإصابة 8394 حالة مؤكدة حتى مطلع شهر أكتوبر 2022م، بحسب عمليات الترصد الوبائي التابعة لوزارة الصحة العامة والسكان في محافظة تعز.
وحمى الضنك عدوى فيروسية تنتقل بواسطة لدغة أنثى بعوضة تدعى “الزاعجة المصرية”، تصيب الرضّع وصغار الأطفال والبالغين دون استثناء، وسجلت تعز أولى إصابة بحمى ضنك، عام 1994، وفق ما يقول لـ“يمن سايت” مدير الإعلام في مكتب الصحة والسكان في تعز، تيسير السامعي، الذي أكد وجود تزايد مطرد لحالات الإصابة، هذا العام؛ وخلال شهر سبتمبر الماضي وحده سُجلت أكثر من 2000 حالة إصابة في تعز.
إلا أن البيانات الرسمية لا تعكس عادة حقيقة حجم الإصابة، خصوصاً وأن مرضى كثرًا لا يقصدون المشافي في ظل تفشي الفقر والبطالة.
ضنك على ضنك
يعود وباء حمى الضنك هذا العام، ليضيف ضنكاً جديداً إلى ضنك العيش في تعز المحاصرة منذ مارس 2015، في عملية عسكرية لم يعرف لها العالم مثيلاً منذ الحرب العالمية الثانية عندما حوصرت مدينة لينينغراد الروسية من قبل قوات دول المحور لمدة 872 يوماً.
وتحاصر قوات عسكرية ومليشيات حزبية تنشط تحت غطاء ما تسمى حركة أنصار الله (الحوثيين)، المدينة من ثلاث جهات، وتسيطر على آبار مشروع المياه الرئيس، وتمنع إمدادات المياه عن سكان الجزء المحاصر من المدينة.
وتلفت ارتفاع القباطي، نائب مدير شؤون التحسين في صندوق النظافة في تعز، إلى العوامل “الديموغرافية والمناخية” باعتبارها واحداً من الأسباب وراء تفشي الفيروس. وتقول لـ”يمن سايت” إن المدينة صارت “بيئة مثالية وخصبة لتكاثر بويضات ويرقات الحشرات الناقلة للأمراض الفيروسية”.
وترى القباطي أن “احتواء الوباء يحتاج إلى منظومة صحية متكاملة للترصد والمكافحة، ومنظومة بيئية تقوم باللازم تجاه مسببات المرض، سواء من مخلفات أو مستنقعات”؛ مشيرة إلى أن مكافحة الفيروس في الحالة الراهنة أمر صعب.
وكان إنهاء حصار تعز وإعادة ضخ المياه واحداً من مطالب تضمنتها رسالة وجهتها في أبريل 2021 فروع الأحزاب السياسية في تعز، إلى مبعوث الأمم المتحدة السابق مارتن غريفيثس. وتجدد هذا الطلب مع زيارة المبعوث الجديد، هانس غروندبرغ، لتعز، في نوفمبر الماضي، في أول زيارة لمبعوث أممي إلى المدينة.
بيد أن غروندبرغ سار على خطى سابقيه في تجاهل معاناة المدنيين المحاصرين، ومازالت تفاهمات تعز التي تضمنها اتفاق ستوكهولم خارج حيز التنفيذ، في حين حصلت القوات المنفذة للحصار على كل مطالبها تقريباً، بما فيها فتح مطار صنعاء. ولم تفلح حملات دولية في كسر صمت المجتمع الدولي إزاء مأساة حصار تعز الموصوفة بـ“لينينغراد اليمنية”.
انهيار حضري
وتسبب استمرار حصار المدينة وقصفها في انهيار شبه كلي للمنظومة الصحية والبنية التحتية، ما حدا بالسكان إلى اتباع خيارات بديلة للحصول على المياه وتوفيرها، إذ غالباً ما تكون المياه المعبأة من الأمطار في خزانات مكشوفة مصدراً لنمو يرقات البعوض؛ عوضاً عن المستنقعات المائية التي تنتشر في الأحياء السكنية نظراً لعدم وجود صيانة دورية للشوارع.
وحتى ما قبل اندلاع الحرب الأهلية التي تشهدها البلاد على خلفية انقلاب 21 سبتمبر 2014، ظلت تعز تعاني من شح المياه، إذ “يقوم المواطنون بتجميع المياه داخل خزانات مكشوفة، وبالتالي يكثر البعوض الناقل لحمى الضنك”. ما جعل وباء حمى الضنك يستوطن مدينة تعز منذ أكثر من 20 سنة، بسبب التخزين الخاطئ للمياه، وفق ما يقول السامعي.
وانخفاض صفائح الدم واحد من أعراض الإصابة بحمى الضنك. يقول لـ“يمن سايت”، أحد المصابين، ويُدعى أحمد علي: “أصبت بحمى شديدة، وصداع شديد، وبعد أن زاد الألم انتقلت إلى أحد المستشفيات داخل المدينة، ومنه إلى مستشفى ثانٍ وثالث، وكل منهم يطلب مني فحوصات، وكان ما يلاحظ في كل مرة هبوط حاد في عدد الصفائح الدموية، ولم تستقر حالتي إلا بعد نقل صفائح دموية”.
واشتكى علي من التكاليف المرتفعة للفحوصات الطبية والرقود، ويقول: “كنت أفكر بالناس الذين ما عندهم فلوس كيف بيتعايشوا مع المرض، من بيعطي لهم حتى حق فحص”. ويضيف: “الحرب دمرتنا وجعلتنا شعباً فقيراً يموت وهو يحتاج لمغذية أو إبرة لا يملك قيمتها”.
عُرف وباء حمى الضنك عالمياً للمرة الأولى في الفلبين وتايلاند، في خمسينيات القرن الماضي، إذ تختلف سماته السريرية وفق عمر المريض، وهو عادة ما يظهر بشكل مفاجئ، ويتسبّب في حمى شديدة وصداع حاد وألم وراء العينين وألم في العضل والمفاصل وطفح، وتتطور نسخة منه باسم “حمى الضنك النزفية”، وهي الأشد فتكاً، وقد تؤدي إلى الوفاة. وفترة حضانة الفيروس داخل البعوضة تدوم من 8 إلى 10 أيام، يصبح بعدها البعوض الناقل مهيأ لحقن الفيروس لدى من يتعرضون للسعاته.
وطبقاً لمنظمة الصحة العالمية، لا يوجد -حتى الآن- علاج محدد لحمى الضنك والنسخة الفتاكة منها المعروفة بحمى الضنك الوخيمة؛ غير أن الإبكار في الكشف عن تفاقمها إلى حمى ضنك وخيمة وإتاحة الرعاية الطبية اللازمة يقللان من معدلات الوفيات الناجمة عن حمى الضنك الوخيمة إلى ما دون ١%.
وتشرح سلمى أحمد، وهي امرأة حامل بشهورها الأولى، كيف كانت على مشارف الموت بعد أن أصيبت بفيروس حمى الضنك، الذي مازال يكبدها العناء، ويزيدُ عناؤها مع تعذر الأطباء عن تقرير مجموعة من العلاجات لها، خشية أن تؤثر تأثيراتها الجانبية على وضع جنينها.
تقول سلمى لـ“يمن سايت”: “مع الحمل لم يكن أحد قادراً أن يصرف لي أي علاج، حتى لا يؤثر على الجنين، وهذا الشيء جعل المرض يستقوي على جسمي، وكل يوم إسعافات للمستشفيات بلا فائدة، وعادني كلما شفت المرضى والحالات أزعل وتسوء حالتي”.
وفي وقت يتفشى الفساد والجبايات في مناطق سيطرة الانقلابيين والحكومة الشرعية على السواء، ترى القباطي أن مواجهة الوباء مسؤولية مشتركة، “تتوزع بين الجهات المسؤولة سواء في مكتب الصحة وصندوق النظافة، والمياه والصرف الصحي، وجزء يتحملها المواطن نظراً لعدم الالتزام باستخدام الوسائل الاحترازية الوقائية أو العلاجية”.