أمين درهم
ولد الفنان علي بن علي الآنسى عام 1933م، في حي الباشا بصنعاء القديمة، من أبوين مكافحين، وهما البيتشاويش المدفعي علي بن يحيى الآنسي والأم سعادة، رحمة الله عليهما.
بعد ثورة 1948م، انتقل الفنان علي الآنسي، مع جميع أسرته، إلى مدينة تعز، حيث كان يقيم الإمام أحمد حميد الدين، كما انتقلت في ذلك الوقت الكثير من العائلات الصنعانية إلى مدينة تعز، وكان أكبر تجمع لهذه العائلات في منطقة الجحملية التي شكلوا فيها العديد من المجالس الفنية والأدبية ذات الطابع الصنعاني المتميز.
وكان من أبرز هذه المجالس: مجلس الحاج علي الحمامي، ومجلس أحمد خيري العسيري، ومجلس السيد أحمد شرف الدين، ومجلس العميد أحمد الآنسي شقيق الفنان علي الآنسي، ومجلس جميل محرم، ومجلس محمد نجمي أفندي، ومجلس العزي السنيدار، ومجلس عبدالله الغريبي، ومجلس عباس إسحاق، وغيرهم.
أما في منطقة المدينة، فقد ظهرت عدة مجالس مشابهة مثل مجلس عبدالعزيز الحروي، ومجلس سعيد مرشد، ومجلس محمد علي سري، وأيضاً مجلس نادي تعز الرياضي والثقافي، والذي كان خلف عمارة الغنامي بتعز، وكان المؤسسون لهذا النادي هم نخبة من موظفي النقطة الرابعة (هيئة التعاون الأمريكي)، وغيرهم من شباب تعز، وكان الفنان علي الآنسي أحد رموز النادي.
ومن الفنانين المطربين الذين ظهروا في تلك الفترة، واشتهرت أسماؤهم عبر تلك المجالس: العقيد حسين هبة، والعزي السنيدار، والعميد أحمد عشيش، ويحيى الشمسي، ومحمد علي رضا، وعلي سرور، وعلي الآنسي، وغيرهم.
كما اشتهر في فن النكتة والفكاهة كلٌّ من: أحمد عبدالرحمن حميد الدين، القاضي عبدالله العنسي، يحيى الشمسي، أحمد عيسى، أحمد راشد، حمود السلال، حسن السلال، وسعد الربيدي، وغيرهم.
بدأت الاهتمامات الفنية للآنسي بالظهور في مدينة تعز، منذ أن كان طالباً في المدرسة الأحمدية في خمسينيات القرن الماضي، حينها امتلك أول عود إهداء من أحد المعجبين بفنه، وهو المرحوم محمد السراجي، وعندما علم والده بامتلاكه عوداً في المنزل، قام بإحراقه في التنور في سطح المنزل، غير أن عزيمة الشاب وشغفه الكبير في الفن دفعه لمواصلة حلمه، فقد بدأ حياته الفنية هاوياً للفن، ثم محترفاً، حتى وصل إلى مستوى كبار الفنانين في اليمن والوطن العربي.
محطات عديدة جمعتنا بالفنان علي الآنسي، طيلة علاقتنا التي امتدت لأكثر من 10 سنوات.
إحدى هذه المحطات التي لا تنسى هي اصطحابي له إلى مدينة عدن في أول زيارة له للمدينة عام 1961م، حيث قمت بتعريفه على كبار الفنانين المشهورين في ذلك الوقت، أمثال: محمد مرشد ناجي، وفضل محمد اللحجي، وأبو بكر بلفقيه، وحسن فقيه، ومحمد صالح همشري، وأحمد يوسف الزبيدي، وغيرهم من فناني عدن ولحج.
وهناك اشترك مع بعض الفنانين المذكورين في جلسات طرب، وتم تبادل الآراء حول الألوان الفنية في ربوع اليمن، الأمر الذي ساعده في إثراء تجربته الفنية، وتعميق معرفته بأصول الفن اليمني في الشمال والجنوب.
كما عرَّفتُه على الحاج محمد عبدالعزيز الأغبري، أبي الفنانين والرياضيين بعدن يومها، والذي استضافه في منزله لمدة 3 أيام، وسجل له عدداً من الأغاني من ألحانه ومن التراث الصنعاني، في الشريط كنز، وهو بيد ولده علي محمد عبدالعزيز، المقيم في مدينة تعز حالياً.
خلال هذه الزيارة أدَّى الآنسي أغنية عدنية للفنان محمد صالح همشري “اشهدوا لي على الأخضر شل عقلي مني وأنكر”، وكان دائماً يتغنى بهذه الأغنية، التي تم تسجيلها لاحقاً في إذاعه صنعاء، بصوت الفنان علي السمة “اشهدوا لي على الأسمر”، ومن ناحية أخرى غنى له الفنان أبو بكر بلفقيه “يا ليل هل أشكو”، وفي أوائل عام 1962م، سجلها في بيروت بالفرقة الموسيقية، وتم طبع أسطواناتها للاستثمار، وكان لها رواج كبير في السوق اليمني والسعودي، وتعتبر هذه الأغنية أول عمل فني للفنان أبو بكر باللون الصنعاني.
في عام 1961م، زارني الفنانان فضل محمد اللحجي وأحمد يوسف الزبيدي، في مدينة تعز، من أجل إخراج جواز سفر متوكلي للفنان أحمد يوسف الزبيدي، لغرض الهجرة إلى المملكة العربية السعودية.
حينها تم اللقاء في منزل السيد محمد عباس إسحاق، وكان هناك الفنان فضل اللحجي والفنان أحمد يوسف الزبيدي والشاعر علي بن علي صبرة والفنان علي الآنسي والأستاذ علي أحمد الخضر والفنان عبدالرحمن الآنسي وغيرهم. غنى فضل اللحجي “وامغرد بوادي الدور”، والآنسي “يا ليل هل أشكو”، وعلي الخضر “يا ربة الصوت الرخيم”، والزبيدي بأغنية “ساكت ولا كلمة” وأنشودة “باسم هذا التراب”.
تم تسجيل هذه الأغاني على شريط الرول، وأعجب الآنسي بأنشودة “باسم هذا التراب”، وحفظها كلمات ولحناً، وهي من كلمات صالح نصيب ولحن حسن عطا، والاثنان من لحج الخضيرة.
هذه الأنشودة كانت قد أُنشدت في حفل جماهيري كبير في دار سعد، عام 1958م، وخصص إيراد الحفل لصالح ثورة الجزائر.
سافر الزبيدي إلى مدينة جدة، وهناك وجد ضالته، حيث كان يقيم عدد كبير من اليمنيين، وفي 1964م اصطحب أسرته إلى المملكة، ودرَّس أولاده في مدارس وجامعات سعودية، ومنهم الدكتور علي الزبيدي الذي تخرج طبيباً، وعمل فترة مديراً لمستشفى الملك عبدالعزيز في جدة.
وعند قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م، انطلق صوت الآنسي يشدو بأنشودة “باسم هذا التراب”، ثم سجلت في إذاعة صنعاء، ولقيت صدىً كبيراً لدى الجمهور اليمني شمالاً وجنوباً، وظلت نشيد الصباح في مدارس الجمهورية، حتى تم تأليف وتلحين النشيد الوطني للجمهورية العربية اليمنية.
قبل قيام الثورة بأسبوع، أي بعد وفاة الإمام أحمد، كنا على ثقة بأن الثورة سوف تندلع لا محالة، وفي ذلك الوقت كنت أقيم في إحدى شقق عمارة الأخ علي محمد سعيد، بجانب المدرسة الأحمدية بتعز، وجمعت بعض الفنانين الموثوق بهم، مثل علي الآنسي وعلي الخضر وعلي صبرة وعبدالكريم تقي والفنان الحريبي صاحب أغنية “مسكين الإنسان”، ونخبة من الشباب الوطني، منهم محمد قائد الزعيتري وعز الدين ياسين ومحمد مطهر عبده ومحمد مهيوب عثمان وعبده عثمان محمد، ومحمد سعيد عوض، وعبدالرحمن محمد الشيخ وعبدالوهاب عبدالله أحمد وعبدالمجيد مطهر سعيد، وغيرهم. وقمنا بتجهيز بعض الأناشيد الثورية، مثل “جيشنا يا جيشنا”، “في السهول والجبال”، “باسم هذا التراب”، وأيضاً الشعارات المناسبة للثورة.
كان الأخ علي محمد سعيد يزورنا من وقت إلى آخر، ونحن نجهز الأناشيد والشعارات، وكان يشجعنا على هذا العمل، ولم نكن نعرف أنه واحد من الثوار إلا بعد أن سمعنا من إذاعة صنعاء أنه عضو مجلس قيادة الثورة، وهو أحد مؤسسي البيت التجاري العملاق (شركة هائل سعيد أنعم وشركائه)، وأيضا مؤسسة السعيد للعلوم والثقافة بتعز، والتي تفرعت منها جائزة المرحوم هائل سعيد أنعم للعلوم والثقافة، ومؤسسة السعيد الخيرية التي تهتم ببناء المدارس والمساجد والمنح الدراسية لطالبي العلم المتفوقين في الدراسة في ربوع اليمن من صعدة إلى سقطرى.
في يوم 26 سبتمبر 1962م، تم الإعلان عن قيام الجمهورية، وكنا جاهزين بالشعارات والأناشيد، وانطلقنا في شوارع تعز بمظاهرات حاشدة، وكان الفنان الآنسي بالمقدمة، وبعدها سافر إلى صنعاء، وهناك انطلق يشارك الجنود والضباط في مواقعهم يتغنى بالثورة ويبث روحها فيهم، حتى أصيب وأسعف إلى القاهرة للعلاج.
وهناك كان له لقاء مع الموسيقار محمد عبدالوهاب في المستشفى العسكري بالقاهرة، حيث كان الموسيقار عبدالوهاب مع مجموعة من الفنانين المصريين، يزورن المرضى العائدين من اليمن، سواء كانوا مصريين أو يمنيين. غنى الآنسي “باسم هذا التراب”، وأعجب عبدالوهاب بصوت الآنسي، وشجعه كثيراً. وفي اليوم التالي خرجت الصحف المصرية تشيد بهذا اللقاء البديع.
وعام 1964م كان لنا لقاء جديد في منزل المرحوم أحمد عبده سعيد بتعز، الذي حاول لم شمل الفنانين؛ لذلك أسسنا معاً فرقة موسيقية تضم الفنانين: علي الآنسي، وفضل محمد اللحجي، وعلي السمة، ومحمد قلالة، وعبدالرحمن الآنسي، ومحمد العوامي، وغيرهم.
وكانت هذه الفرقة برئاسة الفنان فضل محمد اللحجي، الذي كان أمهر عازف على آلة العود وآلة القانون حينها.
تم شراء آلات موسيقية من أسمرة (إريتريا)، على نفقة هيئة التعاون الأهلي بتعز، التي كان يرأسها الأستاذ أحمد عبده سعيد، وكان عمر هذه الفرقة قصيراً؛ لأن الفنان علي الآنسي انتقل إلى صنعاء، كما انتقل الفنان فضل محمد اللحجي إلى لحج، ثم استشهد في طريق لحج – عدن، عام 1967م.
محطة أخرى جمعتني بالفنان الآنسي في مدينة الحديدة عام 1966م، حيث تم الاتفاق على تأسيس شركة مساهمة محدودة، ترعى الفن والفنانين، وعلى رأسهم الفنان علي الآنسي، وتم تأسيس الشركة تحت اسم شركة أهازيج وأغاريد صنعاء المحدودة، برأسمال قدره 20 ألف ريال، وانتخبتُ رئيساً لمجلس الإدارة فيها، ومن المؤسسين الإخوة محمد قائد الزعيتري، ومحمد عبدالوهاب جباري، وعمر أحمد بادويلان، ود. سعيد الشيباني، وإبراهيم حيدرة، وإبراهيم الوجيه.
كان من أبرز ما حققته وأنجزته هذه الشركة، هو توثيق أغاني الفنان الآنسي، ونسخ أسطوانات للاستثمار، ومنحه أسهماً من رأسمال الشركة، وتعيينه مديراً فنياً لها.
وبعدها تم تسجيل 10 أغانٍ في بيروت، مع فرقة الأخوين الرحباني، وهي: حبيبي، قد علموه، لا تجرحي حبي، دان واساجعة، يا الله رضاك، قمري صنعاء جننّي، في ظل راية ثورتي، يا قلبي ما لك، تعيش أنت وتبقى، وامغرد بوادي الدور، والتي أداها بنفس المقدمة واللحن الفنان فضل محمد اللحجي. وقمنا بإهداء إذاعة صنعاء جميع هذه الأغاني، وكانت تذاع باستمرار، وبطلب من الجمهور.
أنشودة “في ظل راية ثورتي” اعتمدت نشيداً وطنياً للجمهورية حتى عام 1990م، وهي من كلمات الشاعر أحمد العماري، ولحن علي الآنسي.
كما تم تسجيل وطبع أسطوانات في القاهرة للفنان فرسان خليفة، وفائزة أحمد، ورويدة عدنان، وشريفة ماهر، وأيضاً الفنان أحمد قاسم، وزوجته فتحية الصغيرة.
وفي 1970م، بعد ظهور مسجلة الكاسيت، انتهى سوق الأسطوانات الشمعية، وأغلقت الشركة، تاركةً كمية كبيرة من الأسطوانات المنتجة في ذلك الوقت.
كان الفنان علي بن علي الآنسي حريصاً على إبراز دور الأغنية اليمنية الأصيلة شعراً ولحناً ونظماً، لذا شكل برفقة الشاعر علي بن علي صبرة ثنائياً ناجحاً في هذا المجال.
كما كان ثالثهما الفنان المثقف علي أحمد الخضر، وكانوا يعرفون بـ”الثلاثة العلايلة”.
وقد عاصر الشاعر علي صبرة كل مراحل الفنان الآنسي، ابتداء من مدرسة نصير في صنعاء القديمة، ثم في مدينة تعز عام 1958م، وهناك تفتحت مواهبهما في الشعر والغناء، وهنا أذكر بعض الأغاني العاطفية والوطنية: أهلاً بمن داس العذول واقبل، التي انتشرت بصوت الفنانتين بنت شريان وفاطمة الأصبحي، في أواخر الخمسينيات، ثم بصوت علي الآنسي، وبعده بأصوات الكثير من الفنانين في شمال وجنوب اليمن، وأولهم الفنان محمد مرشد ناجي وبلحن خاص به.
أهلاً وسهلاً، قد علموه، شادق بابك، يا الله رضاك، يا عيوني اسكبي، قمري صنعاء جنني، يا ليل هل أشكو، آنست يا حالي، حبيبي شاتسير، يا قلب ما لك، عند ابن عباس خير الناس قاصي وداني، يا ريح يا ريح، يا من بحبه قد بلاني، في السهول والجبال، يا ويح قلبي، يا من بأول كأس، الله من ليلة، يا لطيف، وغيرها. يذكرنا هذا التزامل الطبيعي بين الشعر والموسيقى بقول أحد الفلاسفة “إن الشعر جسم الوردة والموسيقى رائحتها”.
ولا ننسى علاقة الفنان الآنسي مع شعراء آخرين، أمثال: عباس المطاع، ومطهر الإرياني، وأحمد العماري، وعباس الديلمي، وغيرهم. وأذكر هنا بعض الأغاني الخالدة من كلماتهم: آنستنا يا عيد، خطر غصن القنا، يوم الوداع، الحب والبن، نجوم الليل، نحن الشباب، في ظل راية ثورتي، وغيرها.
كما كان له بعض الأغاني من كلماته وألحانه، مثل: يا عيباه، ما في معلم خير، ليلك الليل يا ليل، قلتوا عتنسوني، ياخو القمر. أما عن بعض الأغاني التراثية فقد أداها بشكل متمكن عزفاً وأداءً.
“ولد وعاش ومات.. يصنع أفراحنا ويطربنا برؤى لأوجاعنا وأتراحنا.. ويشد بأوتاره نياط قلوب شعبنا الصامد.. الصابر.. السموح.. ويشدو.. ويشدو.. ويشدو.. فهو باختصار شديد.. لم يعش حاسداً، بل عاش محسوداً على طول الخط.. ولقد عاش حياته حراً.. شريفاً.. فقيراً” (صالح الدحان).
ظلت علاقتي بالفنان والصديق العزيز علي الآنسي، وثيقة الصلة حتى وافته المنية بتاريخ 17/4/1981م، حيث مثل رحيله خسارة كبيرة على الفن اليمني.. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.
أُنشُودَة باسمِ هَذَا التراب
باسم هذا التراب والفيافي الرحاب
والجبال الصِّعاب سوف نثأر يا أخي
يا بني هذا الجنوب اليوم هذا يومكم يوم الشعوب
يوم أخذ الثأر بالدماء والنار
هيا يا أحرار نلحق الركب الأبي
باسم هذا التراب
إن في الثـَّورةِ موتاً ومن الموتِ حياة
إن في الثـّورةِ نصراً تـُسمعُ الدنيا صداه
إنها ليست خيالاً فاسألوا عنها جمال
فهو صُنَّاع الرِّجال وفتى قوميتي
باسم هذا التراب
يوم تروى الأرض من دمي ودمك يا أخي
ويشبع الطير من لحمي ولحمك يا أخي
يوم تغزو النار في منزل أخيك
يوم تسمع صرخة الأطفال فيك.