يلاحظ المتابع للدراسات والمقاربات التي تتناول الشأن السياسي في اليمن، رتابتها وتكرارها. وإلى جانب افتقارها للمعلومات، تخلو كذلك من التحليل القائم على مشاهدة الوقائع وقراءتها. فما ينشر في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، يقدم نموذجاً واضحاً لتلك الركاكة.
وهناك أسباب كثيرة أدت إلى انتشار هذه الظاهرة، منها الاعتقاد بوجود حرب حقيقية بين الخير والشر، وكذلك الانطلاق من مواقف مسبقة، فكل من يحدد موقفاً يريد أن يكون صاحب الموقف الحصيف الذي لا تشوبه شائبة.
التداخل بين السياسي والديني والاقتصادي والعسكري والأمني والمناطقي، والتداخل بين الداخلي والخارجي (المحلي والإقليمي والدولي) زاد المشهد تعقيداً، وكذلك استخدام مفاهيم مثل: الشعب، الثورة، السيادة، الوطن، مفاهيم تجعل الرؤية أكثر ضبابية، وتصير الحوارات ضرباً من ضروب العبث، أما في ما يتعلق بمفهوم الدولة، فهناك لغط كبير إلى درجة تصوير الصراع كأنه صراع بين من يبحثون عن دولة مدنية حديثة وبين من يحنون إلى وضع سابق للدولة.
خلال الفترة (2012-2022) تم إهمال إزاحات كثيرة حصلت، نعتبرها ذات أهمية، وسنطلق عليها هنا تغيرات. وحتى لا ندخل في متاهة تحديد الاختلاف بين السلبي والإيجابي، سنقتصر على ذكرها فقط، فهي تحتاج إلى متابعة واهتمام وانتباه، بل يمكن اعتبارها مؤشرات لمستقبل اليمن السياسي والاقتصادي، ومن هذه التغيرات:
- الغياب التام لصراع السلطة – المعارضة، ذلك الصراع الزائف الذي كان يعطي صورة لمشهد سياسي خالِ من التعقيدات، وقد أثبتت السنوات العشر الأخيرة أن المشهد السياسي أكثر تعقيداً، صارت البندقية هي الصوت الأقوى، وصارت المليشيات هي القوى الفاعلة على أرض الواقع.
- بعد تشكيل مجلس القيادة الرئاسي تم تداول مقطع فيديو لوزير الإدارة المحلية والحوار الوطني، حسين عبدالرحمن عبدالقادر الأغبري، تحدث فيه عن مبالغ مالية كانت مخصصة لشركات صينية لكي تقوم بعملية المحاسبة والمراقبة للتدفقات النقدية في اليمن، فقد صرَّح بأن هذه المبالغ اختفت، وأرجع هذا الاختفاء إلى قوى جذورها ممتدة في الدولة العميقة.
لا نناقش هنا أو نتحقق من صحة ما قاله الوزير الأغبري، بقدر ما نود أن نؤكد على تغير مهم، هو استدعاء شركات أجنبية للمراقبة والمحاسبة، بعدما كانت السلطة الحاكمة تعبث بثروات البلاد دون رقيب أو حسيب.هذا التغير ليس بسيطاً، إذ يمكن الاعتماد عليه كمؤشر لسياسات جديدة في اليمن.
وهناك مؤشر آخر هو اليمين الدستورية التي أداها رئيس وأعضاء مجلس الرئاسة، ورفض عضو المجلس عيدروس الزُّبيدي القسم بنفس الصيغة الرسمية التي حلف بها البقية، فقد قفز على مفردتي الجمهورية والوحدة.
قسم الزُّبيدي أعاد إلى الأذهان ما شهده مجلس الرئاسة، عام 1993، عندما أضاف عضو مجلس الرئاسة حينها الشيخ عبدالمجيد الزنداني، إلى القسم، فقرة “أن أكون متمسكاً بكتاب الله وسنة رسوله”، والتي لم يكن يتضمنها النص الدستوري للقسم المعمول به في دستور دولة الوحدة يومها.
في 1993، حمل الخلاف صبغة دينية، والآن أصبح ذا طابع جهوي، فمن اجتزأ صيغة القسم وضع حساباً للجنوب الذي ربما يطمح إلى أن يصبح دولة مستقلة، أو على الأقل لإرضاء الجماهير التي يستند عليها.
وما يمكن رصده في متغير تشكيل مجلس القيادة الرئاسي، هو ضعف تمثيل الإسلام السياسي، ولهذا التغير علاقة بما تشهده السعودية والإمارات، وموقفي هاتين الدولتين من بعض الجماعات الإسلامية.
- الخروج من حالة الشرعية شبه المجمدة في الرياض، إلى صيغة جديدة هي ما سمى “مجلس القيادة الرئاسي”، هذه الحركة، وأياً كان الباعث على حدوثها، حركت المياه الراكدة، بالطبع لا يمكن إرجاع السبب إلى دور النخبة السياسية اليمنية، أو إلى ضغط المثقفين، أو إلى الأحزاب السياسية، أو إلى منظمات المجتمع اليمني، بقدر ما يمكن إرجاعها إلى مسعى السيطرة على البحر الأحمر، أو إلى الصراع الروسي الأوكراني، وحاجة العالم إلى البترول والغاز، أو إلى أي سبب آخر.
- تشديد اللهجة على أهمية دور البنك المركزي لأجل تعزيز الرقابة المصرفية والاقتراب من مستوى معين من الحماية للنظام المالي، وهذا يقتضي بالضرورة التطرق إلى الإيرادات والنفقات في البلد، فلن تدفع السعودية، وبشكل دائم، ودائع لإنقاذ البلد، بخاصة وأن اقتصاد اليمني اقتصاد متخلف وشديد التأثر والحساسية تجاه التقلبات في الأسواق الدولية.
- انعقاد جلسات مجلس النواب في مدينة عدن، أشر إلى تحول في موقف الانتقالي الذي كان يرفض بشكل قطعي وجود الشرعية هناك، والجميع يعرف عن الصدامات المتكررة في السنوات السابقة.
- اقتناع كل المليشيات التي تدَّعي تمثيل اليمنيين، بعجزها عن السيطرة على كامل تراب البلد، أو حتى السيطرة على أجزاء منه، بشكل محكم، الأمر الذي سيؤدي بالضرورة إلى مشاركة الجميع في إدارة شؤون البلد. ولا يمكن التنبؤ بالشكل الذي سيدار به البلد إلا برصد دقيق لكل التغيرات الصغيرة والكبيرة التي تحدث ابتداءً من شكل الدستور إلى تغير الخطاب السياسي إلى التغيرات الإقليمية والتغيرات الدولية، ودور الخارج، وعلى سبيل المثال، وأثناء أداء القسم، كان لحضور السفير الأمريكي والسفير الفرنسي دور في إعطاء أهمية لما يحدث. ولا ندري إذا كان هذا الحضور يشكل ضمانات أم لا؟
- تغير الخطاب باتجاه الخدمات ودفع الرواتب، وهذا ما سيعجل بنهاية هذه الحرب، فالحياة تدنى مستواها كثيراً، وقد تعب الناس كثيراً.
- كان مخططاً لهذه المعارك أن تكون بعيدة عن مناطق النفط والغاز، وتم ذلك بنجاح، بل تم توزيع مناطق للمعارك على كل طرف الالتزام بحدودها، كما تم توزيع الأدوار على الفاعلين السياسيين على المستويين المحلي والإقليمي، وهذا تغير مهم بحاجة إلى متابعة ورصد.
- بالإضافة إلى عملية التفقير الممنهجة، تم استغلال الفقراء كحطب للمعارك، فصارت المساهمة في الحرب شغلاً بالأجر اليومي، ونشط تجار الحروب، مستغلين هذه الفرصة، حتى وصل الأمر بهم إلى إقحام الأطفال في هذه المعارك، وثمة تغيرات رافقت الحروب بحاجة إلى رصد.
وهناك تغيرات لم نتطرق إليها، كمؤتمر الحوار الوطني، والانقلاب عليه، وكذلك مؤتمر الرياض، وما استجد فيه، وأنشطة منظمات الإغاثة، وأنشطة منظمات الأمم المتحدة.لقد أردنا فقط التنبيه إلى أهمية التفاصيل الكامنة في هذه التغيرات، والدعوة لرصد اتجاهاتها وسرعتها وشبكات الترابط بين مكوناتها، بما شأنه إنجاز دراسات مستقبلية حول الفترة المذكورة، فالانتباه إلى هذه التغيرات يعد أمراً مهماً لمن يريد تناول الشأن السياسي اليمني بنزاهة، بعيداً عن الشخصنة والآراء المسبقة والتخندقات.