معقول الشيء هو صورته ومفهومه القار في وعي الإنسان؛ ولئن كانت المعتقدات والثقافة أكثر المعقولات استقراراً وثقلاً، فهي تغوص وتترسب في قاع العقل والوجدان لتشكل ما ندعوه بالهوية، والتي تكاد تلامس اللاوعي؛ إذ أصبحت بعيدة عن متناول الوعي لها؛ ويجب بعثه وإعادته إليه بشكل دوري لتقييمه، وكل معقول (معتقد) لا تتم مراجعته وإعادة النظر فيه، يستحيل إلى لامعقول.
هذه المراجعة، وتدقيق النظر في المعقولات هي لب مفهوم العقلانية. وكل التصورات والمعتقدات التي تتناقض مع مُلمات العقل وتحديات العصر، هي لاعقلانية.
مبادئ وممارسات لاعقلانية
كل التنويعات الإسلامية، من مذاهب وفرق وطوائف وحركات، متباينة ومتنافرة ومتناقضة، تمكنت من الحكم، عبر التاريخ، جميعها ينطلق من لائحة مبادئ نظرية واحدة:
تقسيم العالم إلى: دار إيمان، ودار كفر. والذي يترتب عليه مفهومان مهمان في الخطاب الإسلامي، هما: الولاء والبراء.
الأول يقتضي انغلاق الفرد على جماعته والتعصب لطائفته. والثاني (البراء) يُلزم المسلم باستعداء العالم وبغضه؛ فكل جزء من العالم هو عدو محتمل، ومشروع حرب.
ولو كان الأمر متوقفاً على الولاء فقط، رغم سوئه، لكان على الناس هوناً. لكنه لا يأتي منفرداً أبداً، في الثقافة الإسلامية السائدة، بل يأتي مع البراء، لا ينفك عنه، فحضور أحدهما يستدعي الآخر، في التداول الإسلامي، كأنهما مفهوم واحد، بل وجهان لمفهوم مستتر هو الجهاد.
– التأكيد على أن “الإسلام دين ودولة”، وهو يرفض مدنية الدولة.
– النصية، والهيمنة على النص واحتكاره، وادعاء الحق الحصري في قراءة وتفسير النص.
– إنكار حق العامة في البيعة وفي أفضل حال اغتصابها؛ وتحريم حقهم في الاعتراض والتظاهر والاعتصام ضد قرارات الأمير أو الحاكم أو السلطة أو الحكومة.
– مفهوم التمكين؛ واعتبار وعد الله… هو الدليل على أهلية حُكم الحاكم.
– مفهوم الحاكمية… وشمولية الحكم باسم الله.
– غايتهم هي الإمامة و/أو الخلافة؛ التي، بدورها، غايتها (نظرياً) سيادة العالم والتسلط عليه.
– حُرمة الخروج على الحاكم الظالم.
– ضرورة وجود مرجعية والامتثال لها (هي الوسيط بين النَّص والمسلم…).
– مفهوم الرَّعية الرافض لمفهوم المواطنة؛ بل معظم مفاهيم المعجم السياسي الإسلامي (الأحكام السلطانية).
– إنكار ورفض الاجتهاد.
– قيام التشريع على أساس تقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام، يترتب عليها إقرار الحقوق:
المسلمون، الذميون، والكفار (المنافقون عند الحوثيين).
– شرعنة وإقرار التمييز والفوارق في مجتمع المسلمين على أساس الولاء والعرق والطائفة والمذهب.
– إعلاء النقل على العقل، واعتماد التفسيرات والتأويلات السابقة والقياس عليهما.
– تأطير العالم من منظور المعتقد الديني.
– شرعنة الحكم الاستبدادي ودعمه بفقه الطاعة.
– اقتصاد معاشي، ينطلق من مفاهيم: التسخير والرزق… غايته الإهلاك وليس الاستدامة.
وخزينة الدولة وبنكها المركزي يُداران وفق مفهوم “بيت المال”، الذي فيه رأسمال دولة الجماعة… وهو رأسمال مُحصَّل من النهب والغنائم، ومن المكوس والجبايات والصدقات والواجبات الزكوية، وتمثل الأخيرة المعيار الحقيقي لقوة “الدولة” والخضوع لسلطتها؛ فتأدية الواجبات الزكوية، فضلاً عن كونها مصدراً رئيساً للدخل القومي، هي عملية معيارية، حاسمة، لتأكيد خضوع الناس… وتمردهم؛ ولطالما استُخدمت كأداة إخضاع في تاريخ الدولة والدويلات الإسلامية.
ذلك هو رأسمالها ودخلها القومي. أما إنتاجها فلا يعدو كونه ريعياً وطفيلياً استهلاكياً.
والنتيجة سلوك وممارسات لاعقلانية، فكل التنويعات الإسلامية، من مذاهب وفرق وطوائف وحركات، متباينة ومتنافرة ومتناقضة، تمكنت من الحكم، عبر التاريخ، مارست وتمارس:
– الوصول إلى الحكم بطريقة واحدة، هي الغلبة والقهر والغصب.
– الحكم بصورة واحدة، هي الاستبداد، والتوريث؛ كما مارست الإلغاء والإبعاد والإقصاء، ضد معارضيها، وذلك بتهم شرعية عديدة: التكفير، والتفسيق، والتنفيق (من النفاق)، والتخوين. وكلها الهدف منها واحد: تصفية الخصوم.
– رفض الآخر (المختلف والمخالف) وشيطنته ومعاداته وقهره واستباحته.
– رفض مفهوم المواطنة؛ وتضييق الخناق على المرأة سياسياً واجتماعياً وقانونياً.
– التدخل في حياة الناس الخاصة، وفي تفضيلاتهم وأذواقهم.
– الاتباع والتبعية الجماعاتية (العيش في مجال جماعاتي ووحدات جماعية)، في حال كانت الديار مختلطة.
– توزيع الثروة وتولي المناصب السياسية والقيادية والإدارية، على أساس عرقي وعائلي وقرابي وطائفي وموالاة.
– نظام الخطاب بما هو خطاب لنظام مستبد يملك جهازاً ضخماً من المؤسسات من تعليم وتربية وقوانين وتشريع، وسائل الإعلام، هو خطاب يكرسها جميعاً للقول بأن العالم يتآمر على الإسلام، وأننا مستهدفون كل يوم، وأن دول الشر والكفر تتربص بالمسلمين وتتحين للانقضاض عليهم.
ولا تشذ الحركة الحوثية عن هذه المبادئ والممارسات اللاعقلانية التي تحكم منطق وسلوك جماعات الإسلام السياسي، مثلها في ذلك مثل الوهابية وحركة طالبان والقاعدة وداعش.