أَكتبني رحلة دون وجهة!
أكتبني وجهاً وحيداً لأقاصٍ باردة.
قلما يتكلم الكُتاب المعزولون عن وحول أنفسهم وحياتهم أو أعمالهم، ولو فعلوا يتلطفون الكلام، ويتحدثون متأملين في حياة أنفسهم أو أعمالهم، فيصبح حديث تأملهم فعل كتابة أخرى، بل تصبح الكتابة وحياتهم حدثاً.
هكذا يتبدى الزمن الفاصل بين انتحار الفرنسي جيل دولوز (1925-1995) قفزاً من نافذة شقته في باريس، وحرق العربي أبي حيان التوحيدي (923–1023) كتبه، زمن امتداد.
دولوز والتوحيدي مِمَّنْ يكتبان كأنهما في سحاب كتاب واحد؛ ففي سحاب الفكر تتحدث الكتابة دون لقاء، فكيف تتحدث كتابة دولوز والتوحيدي عن ذاتها؟ أو كيف يتحدث دولوز والتوحيدي حول نفسيهما؟
الكتابة غيرٌ
في “خارج الفلسفة، نصوص مختارة”، يكتب دولوز عن نفسه كمن يشكو: “هناك شيء أحاول أن أخلخله وأن أزحزحه في نفسي”. وفي “الإمتاع والمؤانسة“، يشكو التوحيدي حالة عوزه المفردة بين جماعة كتاب عصره: “لم يبقَ في هذه الجماعة على فَقرِهِ وبؤسه غيري”.
في كتابة دولوز تتبدى الشكوى كإعياء: “هناك صفحات أحبها في الاختلاف والتكرار، تلك المتعلقة بالعياء والتأمل… لأنها نابعة من المعيش الحيوي”. أما في حالة التوحيدي فنجدها تتخلل كتابته كبرق: “أنا؟.. أنا كما برق أضاء الأرض مشرقاً ومغرباً.. وموضع رجلي منه أسود مظلم”. مستلهماً بيت البحتري (820–897): “وَبَدرٌ أَضاءَ الأَرضَ شَرقاً وَمَغرِباً وَمَوضِعُ رِجلي مِنهُ أَسوَدُ مُظلِمُ“.
لدى التوحيدي، كما لدى دولوز؛ تُحيي الكتابة غيراً وتحيا غيراً من خلال أسلوب كتابة الجسر (كتابة الأدب)، فهما يجعلان الغير يحيا في كتابتهما حياة مختلفة، حتى يصبحا وكتابتهما غيراً “كل مرة نكتب فيها نجعل غيرنا يتحدث”؛ يقول دولوز.
فالغير هو لغة الكتابة والفكر؛ لغة متلعثمة موجودة داخل اللغة الأصلية التي يتحدث ويكتب ويفكر بها الكاتب، وعندما يجد الكاتب التلعثم الموجود داخل لغته الأصلية، يجد حاله وحال لغة كتابته مختلفة “أمسيت غريب الحال، معقود اللسان، غريب اللفظ… غريب النحلة”؛ يتحدث التوحيدي كاتباً في “رسالة في الصداقة والصديق“.
يجعل دولوز الفلسفة تقاتل وتغزو بالكتابة فنوناً متعددة؛ فيكتب في السينما والأدب وفن الرسم مبدعاً أفقاً آخر للفلسفة بما هي كتابة مستحيلة، أي بما هي إبداع وخلق. فيما يصنع التوحيدي كتابة أدب متفلسف؛ إنه يكتب كتابة اليوم (كتابة الاختلاف) التي يصبح فيها النقص كمالاً والكمال نقصاً، والبداية نهاية والنهاية بداية. والكتابة لدى دولوز “تَدَفق من بين تدفقات أخرى”، وهي لدى التوحيدي تدفق مشروط “دون قال”.
ضيافة على خط متأخر
وإذا كان الكلام نبؤي رعدياً، فإن الكتابة سحاب صافٍ لضيف متأخر؛ أي أن الكتابة من طبيعة المستقبل: ضيف متأخر.
على الرغم من أن التوحيدي ودولوز عاشا في ثقافة وعصر مختلفين، وكتبا بلغة مختلفة، إلا أن كتابتهما تبدو على خط واحد؛ يكتب التوحيدي “رسالة في الصداقة والصديق”، ويوقع دولوز وصديقه غيتاري كتاب “ما هي الفلسفة”.
في “رسالة في الصداقة والصديق”، يطرق التوحيدي باب الكتابة حول الصداقة لأول مرة في الكتابة العربية، حيث يعد كتابه حول الصداقة ثيمة كتابة وحيدة وغير معهودة من قبل الكتاب في الثقافة العربية لا من قبله ولا من بعده.
وفي “ما هي الفلسفة“، يرد دولوز على ما يشاع عن موت ونهاية الفلسفة؛ طارحاً السؤال كما تُطرِحُ جُثة، جاعلاً منه أفقاً لإجابة مجهولة.
يصير التوحيدي عند دولوز صديقاً للمفهوم (فيلسوفاً)، بينما ينزل دولوز عند التوحيدي ضيفاً على “كتابة لامحدودة”: كتابة الأدب.
يرد دولوز السؤال (سؤال الفلسفة) إلى حيث هو في أصالته، بما هو انفتاح على المجهول، ويجيب التوحيدي السؤال (سؤال الصداقة) بعطاء الكتابة، فتجيء كتابة التوحيدي لكتاب “رسالة في الصداقة والصديق”، إجابة مٌصَادِقة على مَطلَب مرجو وحاجة مُرجَأة أتى وقتها؛ فجاءت الكتابة بصبر وبطء، كما يوضح أبو حيان: “جمعت ما في الرسالة… وأبطأت في تحريرها”.
يهدي التوحيدي كتاب “رسالة الإمتاع والمؤانسة”، إلى صديقه أبي الوفاء*. هذا الإهداء إلى صديق من قبل التوحيدي هو توقيع فردي يشير إلى اسم الصداقة؛ أي إلى إمكانية موجودة لاسم الصداقة المستحيل الوجود، وإلى فرادة الكتابة؛ إنها بداية “كتابة التوقيع” الحديثة، والتي أصبح فيها التوقيع عادة من قبل كتاب الحداثة المعاصرين، حيث أخذوا يوقعون على كتبهم كما هو معروف.
وجه دون وِجْهَة
يحيا التوحيدي ودولوز بعيوب الكتابة: النقص والوسواس وعاطفة حراقة. هكذا الكتابة لا تخلد إلى شيء، لكنها تخترق كل شيء.
تثرثر الكتابة عند دولوز ثرثرة امرأة تشكو وهج رغبة، بينما تَصِرّ الكتابة عند التوحيدي صَرير حيوان أخرس أو صَرير طفل يشكو يتمه؛ لهذا الكتابة جميلة: لأنها خرساء.
ترتحل كتابة دولوز من أفق لآخر؛ إنه مفكر رحال، فهو لا يقطن في المفاهيم، إنما يرحل بها حتى يبلغ طنينها الفكر، وتحيا كتابة التوحيدي، معه في ترحاله ومعاشه وحياته (وراق وناسخ وكاتب).
وبعد عناء ترحال وسفر لاهث، يختم التوحيدي كتابته بحرق كتبه؛ حيث يهتدي في المنام إلى الغطاء الذي يحجب “كتابة الحلم” من اللمس؛ أي يهتدي إلى صيانة كتابة العلم (كتابة الصدر) من خلال الغضب (كتابة العقل).
التوحيدي كما دولوز يكتبان الرغبة، وينهيانها في نفس الوقت؛ ومع ذلك يختم التوحيدي رغبة الكتابة عكس دولوز؛ إنه وهو يغطي كتابة الحلم، يؤجل الرغبة ويحفظها؛ أما دولوز وهو ينهي رغبة الكتابة لديه، يفتحها على المجهول.
بتعبير آخر، يسحب دولوز رغبة الكتابة إلى النهاية؛ أصبح لا يرغب في الكتابة، وينهي حياته بجعل موته حدثاً للفكر، ومبقياً رغبة الكتابة كما بها.
ويسحب التوحيدي خلود الكتاب إلى الزوال (عام 1009 يحرق كتبه)، منهياً بذلك خلود كلام الكتاب (القول)، مبقياً خلود وجه الكتابة لغزاً.
* أبو الوفاء المهندس البوزجاني: صديق أبي حيان التوحيدي ومن وصله بالوزير ابن سعدان. وهو من طلب من أبي حيان أن يكتب مسامراته مع الوزير ابن سعدان في كتاب؛ فجاء كتاب رسالة “الإمتاع والمؤانسة”.