بعد مرور أكثر من نصف قرن على إقامتها في تعز وصنعاء، تستعد الروسية “سڤيتلانا بوسوڤاليوك”، لنشر ألبوم ذكرياتها حول اليمن. محاولة من خلال الصور القديمة مواساة اليمنيين الذين يعانون منذ ثماني سنوات حرباً أسوأ من الحرب التي شنها الملكيون في ستينيات القرن العشرين للإطاحة بالنظام الجمهوري.
وقالت بوسوڤاليوك، لـ “يمن سايت”، إن كتابها سيضم 300 صورة، التقطت في مناطق عدة من اليمن، ما بين عامي 1964 و1967، الفترة التي عاشتها في اليمن مع طفلتها لينوشكا وزوجها، فيكتورفيكتروفيتش بوسوفاليوف، الذي بدأ عمله مترجماً في سفارة اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية في تعز، قبل أن يترقى تدريجياً إلى منصب نائب وزير خارجية.
وكان الاتحاد السوفيتي في مقدمة الدول الأجنبية التي وقفت إلى جانب الشعب اليمني التواق للحرية والانعتاق من أسوأ حكم ظلامي سلالي عرفه العالم، قبل أن تطيح به، في سبتمبر 1962، ثورة شعبية قادها مجموعة من الضباط، بدعم من مصر. هكذا تأتي ذكريات سڤيتلانا وصورها لتضيء محطة مبكرة من تاريخ النظام الجمهوري الذي بات يواجه مخاطر حقيقية بعد نحو 70 عاماً على قيام الجمهورية.
بيتنا الأول
تروي الروسية سڤيتلانا لـ”يمن سايت”، جانباً من رحلتها إلى اليمن منذ لحظة وصولها في فبراير 1964، برفقة زوجها، إلى مطار تعز الجنوبي، على متن الطيران الإثيوبي. حيث بدت لها الجبال تحيط المطار من كل جانب. “كانت حياتنا في اليمن سعيدة للغاية. كنا لانزال شباباً، وكانت الانطباعات عن البلد وطبيعته وشعبه ومدنه هي الأكثر وضوحاً، ولاتزال حاضرة في الذاكرة”، تقول الثمانينية سڤيتلانا.
في تعز، المدينة التي لم تكن حينها بالاتساع والانقسام والحصار كما هي عليه اليوم، سيكون للسيدة سڤيتلانا وزوجها منزلهما العائلي الأول، هما اللذان ظلا يتنقلان ما بين مسكن عائلة الزوج ومسكن عائلة الزوجة، أخيراً حصلا على مسكنهما الخاص، ليس في روسيا، ولكن في تعز البعيدة عن موسكو بأكثر من ستة آلاف كيلومتر.
“أصبح لي بيتي الخاص الذي يجب أن أعتني به، وفيه تشكلت بدايات حياتنا الأسرية”، تقول سڤيتلانا، مستعيدة ذكريات تلك الطمأنينة التي كانت عليها في البلد العربي الأكثر انغلاقاً وتخلفاً، كما كان يوصف شمال اليمن في تلك الفترة.
خلال الأسابيع الأولى من إقامتها الجديدة، تجولت سڤيتلانا في أسواق مدينة تعز القديمة، فاكتشفت محلاً أثار دهشتها، وأبقاها على تواصل به. كان متجراً صغيراً يعرض مصوغات فضية عتيقة صاغها، حسبما تقول، يهود اليمن الذين غادر معظمهم البلاد نهاية عام 1948، في عملية هجرة هي الأكبر، أطلق عليها “بساط الريح”.
“لقد دُهشت بالتشكيلات القديمة الأصيلة لبعض المعروضات، وحصلت تدريجياً على خلخال مميز وقلادة من العقيق على سلسلة منقوشة وخرز وقلادة على شكل كتيب. كانت القلادة مبهجة بشكل خاص”، تقول سڤيتلانا التي تظهر، في صورة التقطت لها حديثاً في موسكو، وهي تتزين بقلادة من العقيق، وترتدي زياً تعزياً أهداه لها صديق يمني.
قبل أن تتعرف سڤيتلانا على اليمن، كان زوجها، فيكتور بوسوفاليوف، قد خبر مجاهل هذا البلد، أثناء عمله مترجماً متدرباً في ميناء الحديدة؛ إبان دراسته في معهد الدراسات الشرقية التابع لجامعة موسكو. كما عمل بوسوفاليوف مترجماً في سفارة اليمن في موسكو.
ومشروع ميناء الحديدة واحد من ثمار العلاقات اليمنية السوفيتية التي بدأت رسميا عام 1928، بتوقيع حكومة إمام المملكة المتوكلية في شمال اليمن، يحيى حميد الدين، معاهدة صداقة وتعاون مع الاتحاد السوفيتي، إلا أن التمثيل الدبلوماسي بين البلدين لم يبدأ إلا عام 1955.
على مقربة من مبنى السفارة السوفيتية في تعز (فندق الجند في ما بعد)، بنت حكومة الاتحاد السوفيتي، عام 1965، مدرسة الشعب الصناعية، وهي واحدة من ثلاث مدارس بنيت في الوقت نفسه في صنعاء والحديدة وتعز، وحملت الاسم ذاته.
بلحة موسكو
في تعز، المدينة الصغيرة الصاخبة حينها بشعارات الجمهورية الوليدة، عاشت الاختصاصية في البيولوجيا، سڤيتلانا بوسوڤاليوك، لمدة عام ونصف. ومع انتقال السفارة السوفيتية إلى العاصمة صنعاء، رحلت وعائلتها لتقيم في صنعاء، في منزل يدعى بيت الأمير السيد قاسم، حسبما تقول.
وعلى الرغم من استمرار الحرب الأهلية بين الجمهوريين والملكيين، في تلك الفترة، إلا أن ذلك لم يحل دون قيام عائلة سڤيتلانا ببعض الرحلات إلى البحر الأحمر، خصوصاً المخا والحديدة، وفق ما تظهر الصور التي التقطت حينها.
بخلاف زوجها، الذي كان له معارف وأصدقاء يمنيون، ويرجع ذلك إلى إتقانه العربية، وعمله كدبلوماسي، لا تجيد سڤيتلانا العربية، ولم تمارس أي عمل رسمي أثناء فترة إقامتها في اليمن.
تقول: “كنت مثل جميع الزوجات والأطفال الآخرين، عشت منغلقة، ولم أتواصل إلا في دائرة المواطنين السوفييت. لم أكن على دراية بالمطبخ اليمني، ولم يكن بإمكاني التجول في المدينة بمفردي، ويبدو أنه لم يكن هناك مطاعم في ذلك الوقت”.
سڤيتلانا، التي أطلعت مراسل “يمن سايت”، على التصميم الأولي لكتابها المرتقب، بدت مبتهجة، وهي تتذكر تلك الفترة من حياتها؛ لكنها تشعر بالأسف لأن كتابها لن تتم طباعته من قبل ناشر بسبب التكلفة العالية. وتقول: “سأضطر مثل بقية المؤلفين أن أطبعه على نفقتي الخاصة، لذلك أريد أن أعرف كم من الأشخاص الذين يرغبون في اقتناء هذا الكتاب أو المساهمة في طباعته”.
وتعود فكرة الكتاب إلى نهاية عام 2020، عندما شرعت سڤيتلانا في نشر صور اليمن عبر حسابها على فيسبوك وإنستغرام. “لأنني أردت تعريف المتابعين بهذه المناظر الجميلة، والتي أصبحت بعد نصف قرن تاريخية وقيمة”. وقالت: “أتمنى من كل قلبي لشعب اليمن السلام والازدهار على أرضه الجميلة العريقة ذات التراث الثقافي الغني، والناس الطيبين الذين يحبون وطنهم بشغف، ويعانون من سنوات طويلة من النزاعات المستمرة”.
ومثلما تزامن نشر سڤيتلانا صور اليمن مع استمرار الحرب التي تشهدها البلاد على خلفية ما يسمى انقلاب 21 سبتمبر 2014، كذلك تزامن خروجها من اليمن مع مؤشرات حرب إقليمية.
ففي مايو 1967، الشهر الذي تصاعدت فيه الأزمة بين مصر وإسرائيل، وانتهت بحرب يونيو 1967، غادر عدد من الدبلوماسيين السوفييت المنطقة، من بينهم فيكتور بوسوفاليوف، وزوجته سڤيتلانا، وطفلته لينوشكا، ونظراً لعدم وجود رحلات طيران مباشرة إلى الاتحاد السوفيتي، فقد اضطروا للسفر على متن سفينة من الإسكندرية.
تصف سڤيتلانا الأيام القليلة التي قضتها في الإسكندرية بالرائعة. مشيرة إلى أنها أتاحت لهم الالتقاء بالأصدقاء، والتجول في أنحاء المدينة، ومنها حديقة المنتزه، قصر الملك فاروق، آخر ملوك مصر.
في تلك الحديقة التي حوت أشجاراً مختلفة، بينها النخيل، عثرت سڤيتلانا على بلحة، فقررت أن تحتفظ بنواتها في حقيبتها كنوع من الذكرى، وبعد سنوات عديدة اكتشفت بالصدفة أن نواة البلحة موجودة في واحدة من حقائبها، فقررت أن تجرب بذرها في موسكو، فجاءت النتيجة مدهشة “لقد نبتت، واستمرت نخلتي في النمو، ومازالت تنمو حتى الآن”، تقول سڤيتلانا بفرح.
وعلاوة على اليمن، أقامت سڤيتلانا وعائلتها لسنوات في سوريا والعراق وعُمان، “وهي دول تركت أيضاً بصمة عميقة في روحي”، حسبما تقول سڤيتلانا التي تشعر بالأسف للرحيل المبكر لزوجها الذي توفي عام 1999، ذات السنة التي شطبت فيها روسيا حوالي 80% من ديون اليمن البالغة 6.4 مليار دولار.