أمام البوابة الرئيسية لسوق “يونجي لبيع السيارات المستعملة” في مدينة أنتشون، ثالث أكبر تجمع حضري في كوريا الجنوبية، وأكبر ميناء بحري على الساحل الغربي الكوري، ينتصب مطعم “الركن اليماني”، مُجسداً تاريخ شتات اليمنيين الممتد منذ مطلع القرن العشرين وحتى لحظة الحرب اليمنية الراهنة التي لم تُسدل فصولها بعد.
يحيل اسم المطعم ومالكته صالحة أحمد ناصر الجرادي، إلى ثلاثية الجوع والبطش والتيه، الحلقة المحكمة كما صورتها أغنية “البالة“، تلك الثلاثية التي ما فتئت تحاصر وجود اليمني وتؤرجحه على خيارات عدة جميعها مُر.
في 1923، السنة التي قتل فيها زُهاء 3000 حاج يمني على يد سرية من الجيش السعودي، في ما بات يعرف بـ”مذبحة تنومة”، غادر ناصر الجرادي مسقط رأسه في منطقة دمت (وسط اليمن)، متوجهاً إلى جيبوتي، هرباً من الجوع وبطش الإمامة الزيدية التي حكمت شمال اليمن لمئات السنين، حسبما تقول حفيدته صالحة.
لكن هجرة الجرادي الجد الذي استقر به المقام في مدينة “هوجيمين” الفيتنامية، ليعمل هناك، ويتزوج من فتاة فيتنامية أنجبت له 3 بنات وولداً سماه أحمد، وهو والد صالحة، لم تكن سوى طوق نجاة مؤقت، فسرعان ما عادت لعنة الشتات والجوع تطارد أبناءه وأحفاده.
“مهاوزة ” و”تفاح خايس”
في هذه المقابلة التي أجراها “يمن سايت” في مطعمها، تروي صالحة الجرادي جانباً من شقاء عائلتها، وهو أيضاً جزء من شقاء البلد الواقع في الركن الجنوبي الغربي من قارة آسيا، عُرف قديماً باسم “اليمن السعيد”، إلا أن الطغيان وصراعات النخب على السلطة أثخنا تاريخه بالتعاسة.
تتذكر صالحة أنها كانت في حوالي السابعة من العمر، عندما وصلت وعائلتها إلى منطقة الحوبان شرق مدينة تعز (256كم)، ضمن مئات الفيتناميين من أصول يمينة، أجلتهم طائرتين عقب اجتياح جيش فيتنام الشمالية عام 1975، عاصمة فيتنام الجنوبية “سايغون”، التي غُيِّر اسمها منذ ذلك الحين إلى “هو تشي منه”؛ نسبة إلى اسم القائد الشيوعي الشمالي “هو تشي منه”.
“حشرونا في غرفة واحدة مثل السمك”؛ تقول صالحة، وهي تضحك، مشيرة إلى الغرفة التي خُصصت لعائلتها في مدينة العمال (مجمع سكني من مجمعين أنشئا مطلع السبعينيات في تعز والحديدة، وخُصصا للمهمشين المعروفين شعبياً بالأخدام).
في تلك الغرفة عاشت عائلة صالحة المكونة من 7 أفراد (الأب والأم و4 بنات وولد هو الأكبر). كانت منطقة الحوبان حينها شبه خلاء، فالحدود الشرقية والشمالية لمدينة تعز تنتهي بما يعرف حالياً بالقصر الجمهوري ومستشفى الثورة العام. تذكر صالحة أن مبنى معسكر الأمن المركزي (الوحدات المركزية حينها) كان لايزال قيد الإنشاء.
في وطن أجدادها، المفترض أن يكون وطنها، لم تجد عائلة صالحة سوى الجوع يترصد لها. “كنا جياعاً”؛ تقول صالحة التي كانت وشقيقتها تجمعان التفاح الخايس (المعطوب) المرمي في السوق المركزي وسط مدينة تعز. “كنا نقطع الجزء الخايس من التفاحة، ونأكل السليم، أما رؤوس السمك التي تُرمى في السوق، فنحملها إلى البيت لتغسلها أمي بالماء والملح، وتعمل منها شوربة سمك”؛ تضيف.
خلافاً لبقية الأطفال الذين استمتعوا باللعب، ارتبطت حياة صالحة منذ طفولتها بالكدح والعمل. “كانت أختي الكبرى تساعد أمي في المطعم، وأنا وأختي رقم اثنين نروح إلى فرزة صنعاء نبيع الماء البارد”. أيامها لم تكن قناني المياه المعدنية منتشرة. لذلك كانت صالحة وشقيقتها تبيعان الماء المُبرَّد في المنزل، للمسافرين، مقابل ربع ريال للكأس الواحدة. ذات مرة انطلقت سيارة البيجو والكأس وقيمة الماء مازالا لدى أحد الركاب في المقعد الخلفي. وأثناء دراستها في مدرسة 13 يونيو الابتدائية، كانت صالحة تبيع مليم العسل (سكاكر) للتلاميذ والتلميذات أثناء الفسحة.
في وقت لاحق، تمكنت العائلة من افتتاح مطعم عبارة عن خيمة بالقرب من شركة الإسفنج التابعة لرجل الأعمال الراحل هائل سعيد أنعم. كان الأب يجلب مستلزمات المطعم من سوق المدينة، في حين تتولى الأم والبنت الكبرى طبخ الطعام، أرز ودجاج مُحمر وسلطة وخضروات مطبوخة ومكرونة، أطباق تشتهر بتقديمها المطاعم الفيتنامية التي انتشرت منذ ذلك الحين، في مدن يمنية عدة.
نشأت صالحة وترعرعت بين الناس العاديين من باعة ومشترين ومشردين. في شوارع تعز وأسواقها تعلمت اللغة العربية، ومن الشارع الكوري تعلمت الكورية، حسب قولها.
في حديثها مع زبائن مطعمها اليمنيين والعرب، تتحدث صالحة العربية بلهجة تعز، وهي لهجة محملة بتلقائية القاموس الشعبي بكل ما يتضمنه من مفردات بعضها نابية أو ما يطلق عليها تعزيون “العرعرة”، بيد أن “عرعرة” صالحة تبدو مرحة.
ارتباط صالحة المبكر بالشارع جعلها عُرضة للتنمر والتمييز. “مرة أخذوني إلى قسم الشرطة لأنني لطمت شاب هاوزني (عاكسني)، لكن ضابط القسم لم يحتجزني لأنه فهم أنني مش غلطانة”؛ تقول صالحة.
ظل التحرش الجنسي يطارد صالحة حتى بعد انتقالها إلى كوريا الجنوبية. فمديرها في محل لبيع الحلوى على سبيل المثال، كان يطلب منها بعد انتهاء نوبة عملها عند الـ11 ليلاً، أن تسهر معه “قال تعالي اسهري معي، لكنني تحايلت عليه، وهربت إلى الشارع”.
تتفاخر صالحة بكونها أول فتاة قادت دراجة هوائية في تعز، وربما في شمال اليمن، والوحيدة في فصلها في “مدرسة 13 يونيو” التي لا ترتدي النقاب.
و”مدرسة 13 يونيو” التي غيرت سلطات الانقلاب في صنعاء اسمها إلى “مدرسة الشهيد صالح الصماد”، واحدة من المدارس المختلطة في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين. حينها كان عدد طلاب فصل صالحة على ما تتذكر، 35 طالباً، بينهم 5 بنات. “كنا نجلس على الأرض، لم تكن هناك كراسي”.
واصلت صالحة تعليمها حتى الصف الأول الثانوي فقط، لكنها كانت مشاغبة بامتياز كما تصف نفسها. تتذكر أن معلم التربية الإسلامية، ويدعى حسن، كان يقول لها سمعينا ما حفظتيه من سور القرآن يا صالحة. “قلت له عندي الدورة الشهرية. وعندما لاحظ أنني أكرر العذر نفسه دعاني جانباً، وقال لي إيش يا صالحة، أنت دورة حيضك مدتها سنة؟”.
خارطة المولدين
“يا حبشية يا كحلاء أبي ضربني من سبك حبة رصاصة تقلب بك”؛ هذه واحدة من العبارات الشعبية التمييزية التي اقترن ظهورها مع بروز ما يعرف بظاهرة المولدين، وهم الأبناء المولودون من أب يمني مهاجر وأم إثيوبية أو صومالية.
مع قدوم جيل أبناء المهاجرين اليمنيين المتزوجين من فيتناميات وآسيويات، اتسعت بدءاً من سبعينيات القرن العشرين خارطة المولدين. إلا أن معاناة المولدين عموماً لم تتوقف.
حصلت صالحة على الجنسية اليمنية، إلا أنها كغيرها من المولدين ظلت تسمع عبارات عنصرية في بلدها اليمن. “كانوا يقولوا لنا روحوا بلادكم يا فيتناميين”؛ تقول صالحة التي رفضت عند وصولها إلى كوريا، التنازل عن جنسيتها اليمنية، ما اضطر السفير اليمني في العاصمة “سول” إلى مساعدتها للحصول على الجنسية الكورية من دون التنازل عن جنسيتها اليمنية، حسب قولها.
ومازالت صالحة تبدي اعتزازاً بهويتها اليمنية، فعلاوة على اسم مطعمها “الركن اليماني”، ترتدي صالحة بين الفينة والأخرى، ملابس يمنية، مثل الزي الصبري والصنعاني.
في مقطع فيديو منشور على صفحة مطعمها في “فيسبوك”، تظهر صالحة وهي ترقص على إيقاع موسيقى يمنية لمناسبة زواج يمني في كوريا.
كما تقدم صالحة المساعدة لمهاجرين يمنيين ممن وصلوا إلى كوريا الجنوبية هرباً من الحرب التي يشهدها بلدهم. تشمل المساعدات التي قدمتها، حسب قولها، الترجمة، ونقلهم بسيارتها إلى مؤسسات حكومية وخاصة، وإطعامهم على الحساب.
لكن “7 من 10 يمنيين ممن ساعدتهم لا يقدرون الجميل، ولا يفون بوعودهم بتسديد ما عليهم”؛ تقول صالحة التي هددت بنشر أسماء المدينين على صفحتها في “فيسبوك”، بيد أن هذا لم يمنعها من الاستمرار في تقديم المساعدة، فهي مثلهم عانت قسوة الهجرة.
تعود فكرة هجرة صالحة من اليمن، إلى شاب كوري جنوبي كان يعمل في اليمن، ويخزن القات أحياناً مع عائلتها. تقول صالحة إنها أعجبت بذلك الشاب فقررت الهجرة. “أيامها لم يكن مطلوباً من اليمنيين تأشيرة دخول مسبقة إلى كوريا الجنوبية”.
لكن كوريا الجنوبية، وطنها الجديد، لم يكن تلك الجنة التي توقعتها، فبعد مضي أكثر من 30 عاماً على مغادرتها اليمن، مازالت صالحة تشعر بذلك البرد القارس الذي لفحها مساء 3 ديسمبر 1990، لحظة وصولها العاصمة الكورية سول.
ليس البرد وحسب، بل صعوبات شتى واجهت صالحة، مثلما واجهت يمنيين كثر توزعتهم بلدان الشتات. “كنت أبكي بسبب العنصرية”؛ تقول صالحة التي وإن بدت ملامحها مشابهة للكوريين (أمها فيتنامية وجدها لأمها من أصول صينية)، إلا أنها عُوملت كأجنبية، وواجهت تمييزاً أشد مما عانته في اليمن.
في سياق حديثها عن الأشخاص الذين عاملوها بقسوة وعنصرية، تقول: “لن أنسى أبداً اسم ميجومي ونعموسجي”، وهما شابتان كوريتان زاملتا صالحة أثناء فترة عملها المبكر، لكن الفتاتين تخصصتا على ما يبدو في مضايقتها.
“ذات مرة شاهدني مشرف النوبة وأنا أبكي، فقال لي كوني قوية”؛ تقول صالحة، مشيرة إلى عديد مرات بكت فيها. فذات يوم بكت أيضاً بسبب توبيخ رفاقها لها على خلفية شربها بالخطأ حصتها وحصة شخص آخر من الحليب الذي كان يوزع على العمال.
تقول: “لازم أكون امرأة قوية كشجرة”. لكن صالحة احتاجت إلى وقت طويل لتتمكن من ردع الفتاتين المتنمرتين. “ذات يوم تمكنت من ضرب إحداهما بقوة حتى سال الدم من أنفها”؛ تقول صالحة بنشوة وكأنها ضربت عدوتها للتو.
أما قوة صالحة الحقيقية فتكمن في استمرار كفاحها وعدم انكسارها أمام الصعوبات الكثيرة التي واجهتها. قبل أن تستقل وتفتح مطعمها الخاص، عملت في مهن مختلفة توزعت ما بين معامل خياطة وبيع حلويات ومطاعم سمك، عانت خلالها الأمرين. “كنت أنام أحياناً 3 ساعات ونصف فقط”؛ تقول صالحة، مشيرة إلى أن معظم أرباب عملها وزملائها لم يكونوا لطفاء معها.
عند التحاقها بمطعم لبيع المأكولات البحرية، أعطيت لصالحة قاعة كبيرة من قاعات المطعم، ليس حباً فيها، بل لأنه من النادر أن يحجز زبائن قاعة كبيرة، لذلك كانت صالحة تحرم من “البقشيش”. والمرة الوحيدة التي حصلت فيها قاعتها على حجز، كان الزبائن عرباً أعطوها بقشيشاً كبيراً قدره 100 ألف وون (100وون =80 دولاراً بسعر الصرف الحالي)، ما أثار حسد زملائها وزميلاتها، على حد قولها.
طرأت فكرة مطعم الركن اليماني أثناء زيارة قامت بها صالحة إلى مطعم بغداد، وهو مطعم عربي. “لكنني لم يحدث أن تعبت كما تعبت في هذا المطعم”؛ تقول صالحة التي لم تعرف الراحة سوى في فترة محدودة، وتحديداً أثناء افتتاحها محلاً لبيع الحلويات بالشراكة مع زوجها.
عن تلك الفترة تقول صالحة: “كنت أعيش مثل الأميرة سندريلا، أستيقظ عند الثامنة، وأعود للبيت عند الساعة الثانية عشرة ظهراً، أو الواحدة. أتحمم ثم أذهب لتعلم الرقص وممارسة الرياضة. كنت أتدرب في نادي سباحة من 8 إلى 9 مساء”.