يرى عبدالله البردوني أن دولة وحدة 1990 “ليس لها سالف وليس لها سوابق تدل على أن هذا الارتباط تاريخي”، وهذا معناه أن الاتحاد السياسي الذي جرى بين نظامي وحدة 1990، لم يجرِ في المدونة التاريخية السياسية لدولة الملة الإسلامية، ولا في المدونة التاريخية السياسية لليمن القديم.
أي أنها جرت في مدونة تاريخ آخر، هو التاريخ الحديث والمعاصر؛ تحديداً في مدونة الفكر السياسي الحديث (العلمنة والمواطنة والتمتع بالحقوق الطبيعية والمدنية)، ونموذجه دولة الأمة الوطن، القائمة على فكرة العرق أو على عنصر عرقي غالب، حيث الوطن كائناً عرقياً لشعب محدد مسبقاً في خريطة يغدو فيها المواطن كائناً مجنساً في هوية عرقية.
وعُمم نموذج الدولة الوطن في أنحاء المعمورة، وعليه تأسست الدولة في شطري اليمن ثم دولة وحدة 1990.
ولئن ذهب البعض إلى القول بأن دولة وحدة 1990 أتت في سياق ظروف دولية (انهيار الاتحاد السوفيتي ومنظومته الاشتراكية)، وأن هذا السياق هو من دفع إلى الوحدة والتعجيل بها، وَعُدَّ عاملاً حاسماً في قيامها.
بيد أن هذا القول يمكن معارضته بتصور آخر وثيق الصلة بمنوال السياق الدولي، مفاده أن دولتي الوحدة في الشطرين تكونتا في سياق نهاية الحقبة الاستعمارية على المستوى العالمي (نهاية الحرب العالمية الثانية 1945)، وكذلك في سياق سياسة استقطاب دولي للعالم (سياق الحرب الباردة)، وهو سياق استقطاب أيديولوجي اقتصادي وسياسي، أسهم ليس في تكوين دولتي الشطرين فحسب، بل في تحقيق الاستقلال من الاستعمار وتكوين دولة الاستقلال العربية (دولة قومية قائمة على هوية عرقية).
مصيدة العبث
ومن دون إنكار لدور سياق انهيار المعسكر الاشتراكي في تسريع وحدة 1990 اليمنية، يبقى اللافت أهمية طبيعة حركة الأفكار السياسية الوطنية الحديثة، في عمقها الفعال في قيام الوحدة اليمنية، وهي أفكار تنسجم مع فكرة دولة الأمة الوطن في التاريخ الحديث والمعاصر.
وما ينبغي التنبه له -عند الحديث عن السياق- هو ظاهرة استمراء مثقفين ومشتغلين في الحقل السياسي العربي واليمني، لمفهوم السياق، وانجذابهم إليه، وهو ما يلاحظ اليوم على القوى السياسية اليمنية المرتبطة بعبث سياسي كبير تشهده المنطقة العربية، ويندرج في سياق عبث دولي أيضاً هدفه خلق قوى “هووية عدمية” غير مرتبطة بالوجود التاريخي الحديث لليمن، ولا بمفهوم الوطن بما هو حاضر.
وكي لا يبقى وجود اليمني مرتهناً بالسياق الدولي الذي اتخذ منذ عام 2011 شكلاً جديداً في الصراع، فإن المطلوب هو نقد هذا السياق وتجاوزه، لا تناوله كَعَلْكَة للنقد فقط، فاستمرار الارتهان لحياة السياق الدولي يجعل حياتنا أشبه بميت في برزخ، فحياة السياق هي حياة برزخية بامتياز.
وهو ما يتطلب عملية نقد أكثر جذرية، تضع العرب، بمن فيهم اليمنيون، داخل العصر، مشاركين في كونه التاريخي. ولعل من المفيد هنا أخذ العِبْرة من تاريخنا العربي القريب، بما من شأنه المشاركة في المدونة الكونية المعاصرة، بحيث تصبح إنسانيتنا جزءاً من كونية العالم. فالمطلوب من الجيل العربي الحالي وقواه السياسية (من يمين ويسار) ومثقفيها اجتراح مدونة أصيلة لمدينة عربية معاصرة داخل المدونة الإنسانية الكونية، وساعتها لن يبقى في الوجود إلا ما ينفع الناس في حاضرهم ومستقبلهم فقط.
إستعادة محمد علي
لقد حقق مشروع “الدولة الوطن” في اليمن -رغم تعثراته- هوية جامعة حديثة لليمنيين، سواء كان في دولتي الشطرين أو في دولة الوحدة، وهذا معناه أن الوطن ليس مكاناً فقط ولا مجرد لاصق هوية، إنما هو الحاضر الذي يتكرر فيه الوجود في كل مرة.
ولذلك ينبغي إعادة النظر في مفهوم التقابل والتعارض السياسي، ومغادرة التقابل المطلق (المعزز بوهم المثقف السياسي الأيديولوجي)، والذي يعاود الظهور في كل مرة يَلوح له سياق دولي جديد، فالتقابل والتعارض صلة وصل، وكذلك اليمين واليسار هما قدما وجود واحد، حيث الواحد لا يمشي إلا بقدمين. واليمني تحديداً يرقص بقدميه، حيث يبدأ الرقص برجله اليسرى كي يساير الشروق، فالبداية باليسار تيسير لِلْعُسْر، وليست أفضلية، حيث في ثانية تبدأ الرِّجْلُ اليمنى مواصلة مشي جسد راقص دون تعارض.
نعم، حقق العرب، ومعهم اليمنيون، تكوين دول قومية حديثة علمانية الشكل والنظام السياسي (جمهوري أو ملكي)، لكنهم أغفلوا، أو تناسوا، العمل على ترجمة حداثة فكر سياسي (علمنة ومواطنة مدينة حديثة مختلفة عن مدينة الغرب الحديث)، أي أغفلوا عن إنتاج مدونة مدينة حداثتهم المعاصرة دون تشابه نسقي مطلق مع مدينة الذات الأوروبية الحديثة.
بكلمات أخرى، لم يصل سياسيو ومثقفو الدولة القومية العربية، نهاية تحديث محمد علي باشا (1769-1849)، ببداية ترجمة جادة وأصيلة أخرى لما تبقى من مدونة الحداثة (فكر كينونة مدينة حداثتهم السياسية المعاصرة)، على غرار ترجمة أساس التحديث في عهد محمد علي باشا، حيث استطاعت ترجمة أساس التحديث في عهده، قطع وبتر نص مدونة الحداثة عن أصله، ونقله إلى حياة حديثة أخرى، وعلى أرض مختلفة.
وعوض المواصلة لما تبقى من تحديث كينونة حياة سياسية حديثة، ذهب سياسيو ومثقفو الدولة القومية العربية (دولة الاستقلال) إلى مداعبة مشروع “حداثة محمد علي”، ومضاهاة مشروعه في حلم دون تيقظ تاريخي، حيث جلبوا نموذج دولة القرن التاسع عشر في أوروبا (نموذج الدولة القومية المحاربة والتوسعية) للتطبيق في دولهم المستقلة من الاستعمار.
ولايزال مخيال هذا النموذج (نموذج دولة القرن التاسع عشر المحاربة) لدى المثقف السياسي العربي الحالي، يداعب به الجماهير؛ يظهر ذلك بوضوح في السياق الدولي الحالي العابث في المنطقة. ويظهر المخيال الأيديولوجي لنموذج دولة القرن التاسع عشر -السابق ذكره أعلاه- كَبَلاهة خاصة عند من يسمون “القيادة الشابة” للجماعات السياسية ذات المنحى الأيديولوجي “الهووي”.
تحظى الدولة العربية الحديثة بانتقاد مكرور وزائف من قبل المثقف السياسي الأيديولوجي؛ بوصفها صناعة استعمارية، ويتضخم هذا النقد أكثر عند نشوب أزمة مع “دولة إسرائيل”، أو عند محاولة بناء علاقة دولية سليمة وواضحة وطبيعية معها، من قبل الدول العربية (علاقة جادة لا تُغفل حياة ووجود الفلسطيني).
إن ما يعوق التحديث السياسي في المجتمع العربي ليس فقط بنية الثقافة السياسية التقليدية، كما يردد المثقف السياسي والأيديولوجي، بل نسق النقد الثقافي الذي ينطلق منه المثقف العربي (نسق تقابلي مطلق مع نموذج سياسي غربي)، في نقده للمجتمع والدولة العربية الحديثة، وعادة هذا النوع من النقد أن يَطْلُب تماثلاً مع نموذج الدولة الغربي لا اختلافاً عنه؛ وهو نقد زائف لا يساعد على التفكير في تحديث ثقافي سياسي حقيقي يقطع مع “حياة السياق الدولي”، بله تفهمه ومجاوزته، فالأرض ليست سياقاً أو خريطة؛ إنما عَظْمَة لا يحيا فيها الإنسان إلا كائناً راقصاً أو رحالاً وهو في مقر سكنه.