عندما أردت مقابلتها للكتابة عنها، سألت عني من أنا؟ فأخبرتها أني كنت أحد نزلاء الفندق الذي تعمل فيه، واليمني الوحيد الذي لم يغازلها ولم يحبها، ولم يكن مبتسماً على الإطلاق؛ ضحكت من ردي هذا، ووافقت فالتقينا في 4 سبتمبر بالقرب من ملعب سول العالمي بالعاصمة الكورية.
كان الوقت بعد العصر، وفي البداية تناولنا وجبة كورية شعبية اسمها “تاك بوكي”، هي عبارة عن مكرونة وكيك الأرز ومرق أحمر حار وخضروات، تناولناها في أحد المطاعم القريبة من الملعب، وبعدها دار بيننا حديث شيق عن ذكرياتها مع اليمنيين الذين دخلوا كوريا لاجئين في العام 2018، وكنت أحدهم.
اسمها “هان جويان”، واختارت لنفسها اسماً عربياً “حنان”، بعد أن عرفت معناه، وأنه قريب من اسم عائلتها جويان، وأخبرتني أنها لم تكن تعرف عن اليمن أي شيء، قبل وصول اليمنيين جزيرة جيجو الكورية، وتقول إنه ربما خطر اسمها عليها أيام المدرسة، لكنها ليست متأكدة من ذلك.
استمر توافد اليمنيين إلى جزيرة جيجو، خلال شهري أبريل ومايو من العام 2018، وكانت هان أو “حنان” كما تحب أن نناديها، تعمل موظفة استقبال في فندق اسمه “آر هوتيل”، وصادفت أمامها في أحد الأيام 4 يمنيين أتوا للحجز في الفندق، كانت تعتبرهم سياحاً.
في اليوم التالي أتى 10 يمنيين آخرين، وكانت ماتزال تعتبرهم سياحاً. وفي اليوم الثالث أو الرابع أتت موجة من اليمنيين بحدود 60 أو 70 شخصاً استولوا على كل غرف الفندق. عندها شعرت أن الأمر ليس طبيعياً، خصوصاً أن الموسم لم يكن موسماً للسياحة، لأن الفصل شتاء.
بدأت هان في البحث والتقصي من اليمنيين أنفسهم: ما الذي يحدث؟ وبعد أن عرفت عن طريق شاب اسمه أحمد النظاري (كان يتحدث الإنجليزية) أنهم أتوا هاربين من الحرب الدائرة في بلدهم، قررت مساعدتهم والوقوف معهم.
تقول إن اليمنيين كانوا يساومونها حول أسعار الغرف، ويريدون أن تخفض لهم السعر، وهي مستغربة من هذا الأمر الذي لم تعهده في كوريا. هناك حسب حديثها أشياء سعرها ثابت، وليست قابلة “للمساومة”، من ضمنها الفنادق، لكنها بعد أن عرفت بقصتهم، ذهبت إلى مالك الفندق، وعرضت عليه التخفيض. ورغم أنه كان رافضاً، إلا أنها استطاعت إقناعه في النهاية.
وتضيف: “كنت أذهب لمالك الفندق وأناقش معه الأمر، رغم أنه يرفض التخفيض، وأقنعته بذلك، وكلما كنت أخفض كانوا يطلبون مني المزيد، واستطعت أن أخفض سعر الغرفة لليوم الواحد من 50 ألف ون (ما يقارب 50 دولاراً) إلى 30 ألف ون”.
وتتابع: “الغرفة في الفندق مسموح أن يستأجرها شخصان فقط، وهذا ما يعمله اليمنيون في الظاهر، لكن في السر كان يسكن في الغرفة الواحدة من 4 إلى 5 أشخاص، وربما أكثر، وأنا كنت أعرف بهذا الشيء، ويطلبون مني بطانيات وفرشاً، وأنا أمدهم بها بدون علم مالك الفندق الذي لو كان عرف بالأمر لطردني معهم”.
وإلى جانب تسترها على اليمنيين المقيمين في غرف الفندق، تقول إنها واجهت مشكلة أخرى، وكان من الواجب عليها الوقوف والمساعدة، لكن هذه المرة المشكلة مع الشرطة الكورية، وهذا الأمر فيه خطورة بالغة تستوجب العقاب بموجب القانون الكوري.
مكتب الهجرة كان يطلب من اليمنيين المتقدمين بطلبات لجوء عقود إيجار لمدة شهر، وهم لا يستطيعون دفع إيجار في الفندق لهذه المدة، ووجدت نفسها أمام امتحان حقيقي؛ إما الوقوف مع اليمنيين وتعريض نفسها هي وزميلها للخطورة، أو أن ترفض منحهم عقوداً، وتسلم من عقاب الشرطة، لكنها اختارت الوقوف مع اليمنيين، وغامرت ومنحتهم عقوداً.
تعود هان إلى بداية الحديث، وتقول: “بعد أن عرفت أن اليمنيين أتوا لاجئين، ذهبت للبحث عن اليمن في محرك البحث “نيفر”، عبر الإنترنت، وهو المحرك الذي نستخدمه نحن الكوريين، وليس “جوجل”، وارتعبت مما وجدت عندما كتبت كلمة: يمن”.
لم تجد عن اليمن غير صور الحرب والدمار والدماء، وهذا المشهد كان صادماً لها، توضح: “لم أجد صوراً ولا فيديوهات ولا أخباراً عن الطبيعة ولا عن المدن، ولا أي شيء آخر غير المأساة والحوثي الذي يوجد بينه حرب مع يمنيين آخرين، ولا أعرف إلى حد الآن على ماذا هذه الحرب قائمة، إني مستغربة، ولا أفهم إلى الآن ما هي القصة”.
وبسبب هذا، تقول إنها قررت الوقوف مع اليمنيين، ولم تكن تعرف حينها أن اليمنيين مسلمون. وبعد أن عرفت الأمر، ارتعبت ودخلت في اختبار آخر أصعب مما سبق؛ هل هي أمام داعش والقاعدة والتطرف والإرهاب؟
عندما تكون “وردية” عملها في الليل، اعتادت “هان” النوم في الفندق حتى الصباح ثم تعود إلى البيت. لكن، بعدما عرفت أن اليمنيين مسلمون تملكها الخوف، وكانت تضطر للمغادرة آخر الليل، وتعود إلى بيتها رغم بُعد المسافة.
عاشت “هان” أياماً من الجحيم الحقيقي، وكانت كلما فكرت بترك العمل يدفعها فضولها لاستكشاف من يكون هؤلاء الناس القادمون من خلف البحار، وما الذي أجبرهم على قطع هذه المسافة كلها؟ ولماذا اختاروا كوريا عن سواها من دول العالم؟
بدأت وبحذر شديد تتقرب من اليمنيين، ومع الأيام اكتشفت طيبتهم، وكانوا يطبخون الطعام في مطبخ الفندق، ويعطونها طعاماً وشوكولاتة وقهوة، لكن هذا الأمر لم يكن مطمئناً لها كفاية، فهي مازالت متوجسة وخائفة وقلقة.
وقد وصل بها خوفها وقلقها إلى أنها كانت تحتضن أمها قبل خروجها من منزل أسرتها إلى الفندق، تقول إنها كانت تحتضنها وهي متأكدة أنها لن تعود في ذلك اليوم إلى أسرتها، وإن والدتها كانت تتصل بها للاطمئنان عليها كل نصف ساعة.
“هان” كانت قد حدثت أمها عن مخاوفها. وبعد أن عرفت أمها أن اليمنيين مسلمون جن جنونها، وطالبتها بترك العمل، لكنها استمرت، فهي من ناحية تقدس عملها ومستعدة للتضحية في سبيله حسب قوله، ومن ناحية أخرى هي فضولية لاكتشاف من يكون هؤلاء الناس.
تضيف: “كنت أفكر وأنا في الفندق أن الفندق سيتفجر في أية لحظة فوق رؤوسنا، وسنموت، أتخيل قنابل وأحزمة ناسفة تتفجر وأشلاءنا تتطاير في الهواء، أو أن اليمنيين سيأتون لقتلي في أية لحظة؛ كنت قلقة وخائفة جداً، الوضع لا يطاق، وكنت أفكر طوال الوقت، وأبحث في الإنترنت عن اليمن، وأحاول أن أتذكر ماذا عليّ من ديون وما عليّ من مسؤوليات والتزامات يجب تنفيذها قبل أن أُقتل”.
وتتابع: “عشت أياماً صعبة جداً، وأعتبرها من أخطر الأيام التي عشتها والتي سأعيشها، وكنت كل يوم أذهب إلى العمل وأنا متأكدة أني لن أعود إلى البيت”.
“بعدها توطدت علاقتي باليمنيين”، تقول مضيفةً: “وعرفت أنهم ليسوا متطرفين كما كنت أعتقد، ونسمع من وسائل الإعلام، وساعدني أحمد النظاري في توضيح الصورة الحقيقية عن اليمنيين في ما يخص التطرف والإرهاب، وكنت كلما شاهدته أعمل معه جلسة تحقيق عن كل شيء يخص اليمنيين وإسلامهم”.
بعد توطد علاقتها معهم، تغيرت نظرت لهم. وأصبحت “هان” تصف اليمنيين بالمبتسمين دائماً. وتقول إنه كان يحزنها أنهم دفعوا مبالغ كثيرة للفندق أثناء انتظارهم للحصول على الـ”أيدي كارد”. وتتذكر “مقلباً” أراد أحد اليمنيين منها أن تشاركه في القيام به في حق صديق له، حيث طلب منها الاتصال به وإخباره أنها من مكتب الهجرة، وتبارك له حصوله على الـ”أيدي كارد”.
تقول: “هذا الموقف لم يعجبني ورفضته، لكني في الوقت نفسه حزنت لأني أدركت كم هؤلاء الناس معذبون وينتظرون أية بارقة أمل ليعيشوا بحرية؛ حزنت على هذا جداً”.
تتحدث “هان” أيضاً عن تعرضها للمضايقة أو المغازلة من قبل أشخاص يمنيين، ولم تكن تعرف في البداية بنواياهم، حيث كانوا يعرضون عليها الخروج معهم لتناول الطعام والشراب في الساحل أو أي مكان آخر أو الذهاب للمراقص، وكانت تعتذر بسبب أنه لا يوجد لديها وقت.
وتضيف: “كنت أعتقد أن هذه العزومات هي رد جميل لأني ساعدتهم في كثير من الأشياء، والتي منها حتى الترجمة إنجليزي وكوري، ولم أكن أعرف بنواياهم، وعرفت في ما بعد، وتضايقت منهم لأني كنت أعاملهم كإخوتي، وبعضهم يعاملني كفريسة، وهذا الأمر لم أحبه منهم”.
وتتذكر أنها أعطت 3 أشخاص رقمها، فبعثوا لها رسائل يصارحونها بالحب من أول مرة، واستغربت من هذا الحب الذي ينزل على اليمنيين بدون سابق إنذار، وذهبت لتسأل النظاري عن ما هو الحب في اليمن؟! فأخبرها ضاحكاً أنه يطلع فجأة بعد القات والتخديرة!
نضحك معاً من هذه المواقف، فتغير مجرى الحديث. تقول إنها شاهدت في ما بعد صوراً جيدة عن اليمن، وتريد السفر إليها، لكنها لا تستطيع حالياً بسبب الحرب، وهي مقررة زيارة أي بلد عربي آخر، ربما مصر، وعندما تنتهي الحرب في اليمن ستزور صنعاء.
سألتها: لماذا صنعاء بالذات؟ ردت: لأنها مدينة تاريخية. وقالت إنها قرأت خبراً عن قيام منظمة اليونسكو بإدراجها ضمن قائمة التراث العالمي. لكنها أيضاً تريد زيارة مدينة إب الساحرة بخضرتها، حسب قولها.
“هان جويان” تحب السلتة والفحسة والكبسة والكباب والفلافل والحمص، وتعشق السحاوق حد الجنون، لكنها لا تحب بنت الصحن، لأن مذاقها حلو كثيراً، أيضاً لا تحب العصيد، وتوضح أن ما تناولته من الأكل اليمني هو طبخ شباب عديمي الخبرة، وأن الأكل في اليمن سيكون ألذ وأشهى.
تقول أيضاً إن الثقافتين الكورية واليمنية مختلفتان تماماً، لكنها شاهدت شيئاً واحداً فقط مشتركاً، وهو أن اليمنيين يحترمون الشخص الكبير في السن، وهذا أمر جيد، حسب تعبيرها.
تنتقل “هان” للحديث عن النساء اليمنيات، وتوضح أنها تشعر بالحزن تجاههن، لأنهن لا يعملن، ومضطهدات ومنزوعات الحقوق والحرية، ولا توجد مساواة بينهن وبين الرجال، وتطالب النساء في اليمن بالقيام بثورة وانتزاع حقوقهن. وتستغرب كيف هناك نساء يمنيات يتعلمن ولا يعملن ولا يملكن قرارهن.
في نهاية اللقاء كان لا بد لها أن “تحش” (تنمّ) على اللاجئين اليمنيين الذين عرفتهم، حيث تقول: “في حرب كوريا مع اليابان وفي حرب الكوريتين هرب الكوريون إلى دول أخرى، من ضمنها عربية، وأيضاً في السبعينيات والثمانينيات اغترب الكوريون في دول الخليج وغيرها، وعملوا في الطرقات والشركات، وكانوا يرسلون المال لتنمية بلادهم، على عكس اليمنيين في كوريا”.
تضحك: “أنا مستغربة من هذا اللجوء! اليمنيون أول ما يستلمون الراتب يشترون تلفونات آخر إصدار، وملابس ماركة، ويستأجرون أحسن البيوت، ويشترون سيارات، ويحبون الخرجات، ويأكلون أحسن أكل”.
وتضيف: “كنت معتقدة أنهم سيعملون ويرسلون لأسرهم المال، لكن حدث العكس، أول ما يستلمون الراتب يأتون إليّ يطلبون مني مساعدتهم في شراء التلفونات آخر صيحة، آيفون 11، آيفون 12، وأنا بنت البلد أمتلك تلفون جلاكسي ناين”.
وتختتم “حشوشها” وحديثها حول أن اليمنيين ليسوا أقوياء بالقول إنهم يحصلون على عمل في أي مصنع، ويذهبون لاستلامه في الصباح، ويهربون منه ظهراً بحجة أنه شاق، وهذا ليس جيداً، فتاريخ اليمن وكوريا في المحن متشابه، ويجب على اليمنيين العمل ومساعدة بلادهم وأسرهم في هذه الظروف العصيبة.