غادرت مدينة تعز قبل حوالي 25 سنة، تنقص قليلاً أو تزيد، حينها كانت المدينة صغيرة وجميلة، وكانت الحوبان هي مدخل المدينة، وقبلها تستقبلك لوحة صغيرة مكتوب عليها “ابتسم أنت في تعز”. ومن الناحية الأخرى كانت بير باشا هي آخر منطقة قبل الخروج من تعز، والسجن المركزي يقع خارج المدينة، والذهاب إليه لزيارة السجين يعتبر سفراً حينها. اليوم أجدني مضطراً للسفر إلى تعز لرؤية سجين غالٍ عليّ، ألا وهو مرتبي الذي لن يغطيَ مصاريف السفر والمكوث ليوم أو يومين والعودة! فالصرف محصور عبر بنك الكريمي في مناطق الشرعية، وبهذا تكون الشرعية أثبتت شرعيتها وسيطرتها بإذلال الموظف. زمان كان السفر من صنعاء إلى تعز يستغرق أربع إلى خمس ساعات، أما اليوم، وبسبب الحرب، صار السفر إلى مدينة تعز يستغرق على الأقل 12 ساعة!
صحيح أن الانتقال من مناطق سيطرة الحوثة إلى أية منطقة خاضعة لسيطرة الشرعية، متعب ومرهق وشاق، لكنه إلى تعز أكثر تعباً ومشقة. قبل الاستعداد للسفر تواصلت مع العديد من الزملاء والأصدقاء في تعز، وأيضاً في صنعاء، بخاصة من سبق لهم السفر إلى تعز في هذه الفترة، وسألتهم عن الاحتياطات التي ينبغي اتخاذها.. ومن أين سأنطلق؟ وما هي آخر نقطة لوصول الباص؟ وماذا عن الإجراءات ونقاط التفتيش التي سأتوقف عندها أثناء السفر؟ والحقيقة أن حصيلة الاتصالات والاستفسارات كانت قائمة طويلة من التحذيرات والتنبيهات من “لا تنس فرمتة تليفونك”، وتنتهي بـ”لا تنس كتابة وصيتك”! لاءات كثيرة مرعبة جعلتني أشعر بالخوف، وأعيد التفكير مثنى وثلاث ورباع في مسألة السفر، فما الذي يجري في تعز المحررة؟ تعز المحررة للأسف محاصرة، ومن يريد الدخول إليها سواء من سكان الحوبان أو قادماً من محافظة أخرى، عليه أن يتجشم عناء السفر عبر الجبال والطرق الوعرة. ووحدهم تجار الحروب هم أكثر المستفيدين من هذا الحصار.
تعز المحررة فيها الخدمات الأساسية والضرورية منعدمة، كالكهرباء والمياه والصحة والنظافة. تعز المحررة دور الحكومة والدولة فيها ضعيف، والمحافظ يدير شؤون المحافظة عبر الواتس. تعز المحررة تعاني من تدهور اقتصادي وارتفاع جنوني متصاعد في الأسعار. تعز المحررة انتشر فيها السلاح، وحوادث القتل تحصل بدم بارد، ولأسباب تافهة بسبب غياب سلطة تضبط الأمن وتوفر الحماية للمواطنين. تعز المحررة منقسمة بين عدة أطراف، وتشتعل بها نيران فتنة ونعرات وصراع مناطقي ظهر من العدم.
هذه هي تعز المحررة التي يفترض أن تكون نموذجاً للمناطق المحررة.. مدينة الثقافة والحرية، مدينة بها يحترم النظام والقانون، مدينة تصان بها حقوق الإنسان. هذه تعز المحررة التي نريد من سكان المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثي أن يثوروا لكي تصير مناطقهم مثلها. لكن للأسف الشديد تعز في هذه الحالة والوضع تخدم سلطة الحوثي، وتجعل الناس يفضلون العيش في مناطق سيطرتهم على العيش في مدينة مثل تعز المحررة!