نهاية ديسمبر 2020، فقدت فيروز محمد أحمد (62 عاماً) ابناً لها في الهجوم الذي استهدف مطار عدن، بيد أنها لم تتضعضع أو تنزع للضغينة وتمجيد العنف كما يفعل قادة رأي وأكاديميون وحقوقيون، بل واصلت مسيرتها الممتدة منذ ما يزيد عن عقدين، كسيدة سلام ويد حنونة تضمد الجروح، وتحل مشاكل مجتمعها الصغير (مديرية خور مكسر) ومحافظة عدن عامة.
“لم أرَ مثل هذه المرأة الشريفة يوماً”، تقول ليلى (27 عاماً)، وهي واحدة ممن أسهمت السيدة فيروز في حل مشاكلهن.
تتمثل معاناة ليلى، كما تشرحها لـ”يمن سايت”، في زوجها الذي لم يكتفِ ببيع مصوغاتها الذهبية وتطليقها، بل سعى بعد ذلك إلى انتزاع ابنتها التي لم تتجاوز 3 سنوات. “ضاق بي الحال، ولأنني يتيمة وإخواني صغار، توجهت إلى الأستاذة فيروز بعد أن سمعت عنها من بنات الحافة”، تقول ليلى.
وبحسب ليلى، فقد استدعت السيدة فيروز الزوج، واستطاعت إقناعه بإبقاء الطفلة في حضانة الأم، في واحدة من مئات القضايا التي أسهمت السيدة فيروز محمد في حلها.
“تيريزا” عدن
علاوة على منصبها كرئيسة للجنة الشؤون الاجتماعية في المجلس المحلي لمديرية خور مكسر، كرست فيروز جهودها لحل النزاعات داخل مجتمعها.
“أكثر من 20 عاماً وأنا أحل قضايا الطلاق والنفقات والابتزاز والميراث، ومشاكل الجيران طوعياً، لم أحاول يوماً أن أحل مشكلة بمقابل مادي، ولم أسأم من العمل الطوعي، بل أراه وظيفتي الأساسية”، تقول فيروز لـ”يمن سايت”.
يعود ارتباط فيروز بحياة الناس البسطاء وقضاياهم إلى ثمانينيات القرن الماضي، عقب تخرجها من الثانوية العامة عام1983 .
تقول فيروز: “أنا إنسانة وهبت حياتي لإصلاح المجتمع وحل النزاعات ومشاكل الناس، ولأني امرأة فأنا أحس بما تحسه النساء، ولأني من أسرة وبيئة متواضعة أحس بما يحسه الفقراء والضعفاء من الناس”.
لكن طريق فيروز لم يكن مفروشاً بالورود، ففي مجتمع ذكوري واجهت فيروز صعوبات كبيرة، إلا أنها لم تنهزم وتتراجع، بل قاومت بقوة حتى استطاعت فرض نفسها وإثبات جدارتها، مقدمة صورة مشرّفة للمرأة اليمنية ودورها في نشر السلام. إنها “تيريزا عدن”، أو هكذا تبدو لمن يعرفها واطلع على نشاطها.
في انتخابات المجالس المحلية عام 2006، كانت فيروز المرأة الوحيدة الفائزة في مديرية خور مكسر، بيد أن فوزها لم يرق للثقافة الذكورية، حيث ظل المجلس المحلي للمديرية يتخذ قراراته دون الرجوع إليها، لكنها لم تخضع لهذا التهميش أو تعتكف في بيتها.
تقول فيروز: “أنا الوحيدة في المجلس المحلي بين رجال، وأي اجتماع يحصل أو اتفاق كان يتفق الرجال لحالهم، ولا يشركونني بالرأي، لكوني امرأة، كنت أتفاجأ بقرار لم أشارك فيه، لكني قاتلت، ولم أيأس، وفرضت رأيي، ولم أستسلم، حتى وثق بي مدير مديرية خور مكسر، عوض مشبح، وأشركني في كثير من القضايا”.
مناضلة أخلاقية
مع انخراطها المتزايد في حل النزاعات، رأت فيروز انها بحاجة لتدعيم مهاراتها بالمعارف القانونية، لذلك قررت الالتحاق بكلية الشريعة والقانون التي تخرجت منها عام ٢٠١٣. “عندما كثرت مشاكل الناس وتداخلت القوانين، خشيت أن أظلم الناس بقضاياهم؛ فقررت أن التحق بالجامعة؛ كي أتعلم وأستند إلى القوانين وأتكلم بقوة”. تقول فيروز.
وفي وقت تساقطت فيه الأخلاقيات الانسانية وشاع الانحياز بفعل الصراع الدموي على السلطة الذي يشهده اليمن منذ انقلاب 21 سبتمبر 2014، أظهرت فيروز نموذجاً إنسانياً وأخلاقياً يحتذى في الدفاع عن المظلومين بصرف النظر عن انتماءاتهم السياسية والمناطقية.
بينما كان كثر، بما فيها الأحزاب اليمنية ومليشياتها، يتجنبون الخوض في قضايا الاعتقالات غير القانونية في عدن، ناهيك عن إدانتها، كانت السيدة فيروز تتنقل بين السجون الرسمية وغير الرسمية، للاطلاع على أوضاع المحتجزين ومساعدتهم.
تقول فيروز: “عندما يشتبه في شاب أقوم بمتابعة الجهات الأمنية بعد أسبوع من التحقيق معه، كنت أواجه من يقوم بالتحقيق وأقول له: أنت قانوناً حققت معه (المتهم)، إذا هو مدان قدمه للمحكمة، وإذا لم يكن مداناً أطلق سراحه، ومن حق أسرته أن تراه”.
توازياً مع ذلك، عملت السيدة فيروز مع “صندوق الرعاية الاجتماعية”، وقادت فرقاً ميدانية في أحياء خور مكسر، لمدة تتجاوز أكثر من شهرين، طوعياً دون أي مقابل، بل نفذت مسحاً ميدانياً من تلقاء نفسها، كي تكتشف الحالات المتعففة، فتحتفظ باسم الحالة في كشف لأي تسجيل جديد.
ومع منظمات الإغاثة بادرت فيروز بالعمل طوعياً مقابل أن يكون لها 200 حالة تقوم هي بتسجيلهم، وهي الحالات الفقيرة من النساء والأطفال والمعاقين، ومن لم يستطع الإفصاح عن فقره، على حسب قولها.
النازحون أيضاً لم تنسهم السيدة فيروز، فقد هيأت لهم المدارس، ويسرت لهم فاعلي خير، وحلت مشاكل كثيرة في مخيماتهم.
تقول عفراء (اسم مستعار): “بعدما تعرضت للتحرش في المخيم من قبل نازح من جماعتنا، هددني أخي بالقتل، وبينما كنت وراء المخيم أبكي، وقفت فوق رأسي، الأستاذة “فيروز”، وسألتني لماذا تبكين؟ فقصصت لها قصتي، والحمد لله خلت حبل الثقة بيني وبين أهلي يقوى من جديد. الحمد لله على نعمة الناس الطيبين”.
بوجه بشوش وقلب مفعم بحب الخير، تمضي فيروز محمد نهارها ما بين مكتبها وبيتها، فاتحة في الحالتين أبوابها لمن ضاقت بهم السبل، واصطدموا بأسوار الظلم، ومع كل يوم يمر “تكبر رغبتي في العمل الإنساني وحل القضايا طوعياً. بيتي مفتوح للجميع، وأنا أشجع النساء بأن يأتين إليّ، فأنا امرأة مثلهن، ومساندة لهم حتى الموت”، تقول فيروز.
تعول فيروز 5 أبناء، وهي ترى في التعليم سلاحاً للمرأة في بلد يشهد تزايداً مضطرداً لتسرب الإناث من المدارس. مشددة على انخراط المرأة في اللجان المجتمعية والانتخابات والسلطة المحلية، “فهذا حق من حقوقِ المرأة يجب أن تناضل من أجلها ولا تيأس”.
في هذا البلد المنكوب بصراعات نخبه السياسية والقبائلية، تبدو فيروز محمد أحمد حالة استثنائية ونموذجاً حقيقياً لثقافة السلام تفتقر إليه القوى المحلية والإقليمية والدولية، بما فيها الأمم المتحدة المتهمة بالضلوع في تأجيج النزاع.
“