يُعرف الدان الحضرمي على نطاق واسع بكونه الفولكلور الغنائي لمنطقة حضرموت (شرق اليمن). عدا أنه بخلاف فرادته اللحنية، يمتاز بتقليد اجتماعي ليس له نظير في أي بلد عربي آخر، إذ إن جلسات الدان تعتمد على ارتجال شعري جماعي تتم تأديته غناء.
ووافقت منظمة اليونسكو على طلب تقدمت به وزارة الثقافة اليمنية، من أجل إدراج فن الدان ضمن قائمة روائع التراث الإنساني اللامادي. لكن لجنة الخبراء الدوليين في اليونسكو قدمت عدة ملاحظات للجانب اليمني من أجل استكمال الملف.
غير أن القيادة الحالية للثقافة لم تمنح الملف الاهتمام الذي يستحقه، وفقاً لناشطين حضارم، يعبرون عن المجتمع الحضرمي المتطلع لأن يرى غناء الدان ضمن التراث اللامادي العالمي. وبتحقق ذلك سيلتحق الدان الحضرمي بفن الغناء الصنعاني الذي أدرجته منظمة اليونسكو، في 2003، ضمن تلك القائمة. وهذا سيُمثل اعترافاً عالمياً بقيمة التراث اليمني.
وينظر الحضارم لفن الدان بفخر، منحه هذا الحضور العضوي ضمن السياق الاجتماعي. وكفن شفاهي كان ذلك عاملاً مُساعداً على ديمومته والمحافظة عليه منذ فترة قديمة. وكان له تأثير واسع في غناء الجزيرة العربية، ولم يقتصر ذلك على توظيف مفردة الدان كثيمة غناء تستهل كثيراً من الأغاني، إنما امتدت إلى ألحانه وأساليبه.
وبخلاف أنه فن ضارب في القدم، لا يمكن تحديد عُمره الزمني، فطابعه الشفاهي يحول دون توضيح مراحل تطور أو حُقب زمنية. فهذا الفن يبدو أنه حافظ على نمطه عدة قرون. ويرى بعض الباحثين أن بداية الدان تعود إلى حوالي 500 عام، لورود لفظة دان في عدد من قصائد العالم الصوفي عمر بن عبدالله بامخرمة.
ولا تستبعد الباحثة شهرزاد قاسم حسن، أن جلسات الدان تُمثل امتداداً لأداء الشعر المُغنى، الذي عُرفت به الجزيرة العربية منذ العصور السابقة للإسلام. ونظراً لموقع وادي حضرموت، فإن تناقل تقليد يمتد إلى جذور بعيدة، حد تعبيرها، وارد.
وفي بحث ميداني قامت به الباحثة عن فن الدان، لاحظت عدة ظواهر، منها سرعة تدوين الأشعار التي تظهر في جلسات الدان. أي أنه أدب يحظى بعملية توثيق سريع ومستمر، وهذا أمر لا مثيل له، حد تعبيرها.
وهذا النوع من الجلسات المُعتمد على الارتجال الشعري، طقس معروف في وادي حضرموت، ويُعرف بدان الحدنة. ويقتصر الارتجال الشعري على جلسات الدان، التي تُمثل مخزناً للإبداع الشعري، ومنها تنتقل القصائد لأنواع أخرى من الدان، بما في ذلك دان النساء. وهو نوع يؤدى في الأعراس، وتصاحبه الإيقاعات. أي أنه يتم تطويعه لوظائف غنائية مُصاحبة للحالة أو الواقعة. فهذا الشعر الذي يؤدى غناء، يحضر في الجلسات والمسامرات.
ويشترك عدد من الشعراء والمغنين في جلسات الدان، بمساجلات وجدانية، ويتطلب وجود ثلاثة عناصر: الشعراء والمغنين والملقنين. ويمكن أيضاً أن يكون هناك طرف آخر، هو الجمهور.
يمثل الدان فضاء فنياً واسعاً يشمل الإبداع الشعري والغنائي. ويحظى هذا الفن بتبجيل وتقدير كبيرين بالنسبة للحضارم. وهذه المكانة شبيهة بتلك التي كان يحظى بها غناء الترابودور في أوروبا خلال القرون الوسطى، وترى بعض النظريات الأوروبية أنه فن تأثر بالثقافة لعرب الأندلس أو العرب الإسبان كما جرت تسميتهم. وكان مغني الترابودور شاعراً أيضاً، وأصبح نمطاً أدبياً يمتلك قيمة بالنسبة للبلاط والعامة، وتفاعل معه الرجال والنساء على حد سواء. وهذا الاهتمام العام يتضح في الدان من خلال تدوين الرجال والنساء الحضارم، على حد سواء، لأشعاره على دفاتر خاصة.
وتُمثل ألحان الدان هوية تُميز الحضارم، ويحافظون عليها أينما حلوا. ويقول لـ”يمن سايت” هشام باحميد، وهو من أبناء حضرموت الوادي، إن أبناء المهجر الحضرمي في إندونيسيا ينتمون للجيل الرابع وأكثر، وكان الاعتقاد بأنهم انفصلوا عن وطنهم الأم. لكن المفاجأة، حد تعبيره، أنهم مازالوا يتغنون بألحان لهم أصلها من الدان الحضرمي.
والمؤكد أن ما يؤديه أبناء المهجر في إندونيسيا، ليس بنفس الكفاءة في الموطن الأُم. وكما يقول باحميد، فليس هناك ما يُبكي مغتربين، مثل تسلل صوت دان إلى مسامعهم. فهو الأرض اللامادية شعراً وغناء، والرمزية لوطن الأسلاف.
يقول باحميد إن علاقته بالدان مستمرة في كل مراحل العُمر، وهو مُشترك بين أبناء الحضارم، لرابط وثيق بين الحضارم وهذا الفن، فهي علاقة تستمر في كل مراحل العمر، ففي طفولته سمع أمه تدندن بألحانه، بينما تتدبر شؤون المنزل. وما إن وعى صارت أغاني الدان أكثر ما ينتشي له طرباً حين سماعه.
لكنه يعتقد أن حضوره بين الشباب ربما تناقص مقارنة بجيله أو الأجيال السابقة له، أو بين جيله ومن سبقوه وهكذا. لافتاً إلى أنه ما قبل المذياع ثم التلفزيون، كان الوسيلة الوحيدة للطرب. بينما ينفتح الفضاء بلا حدود في وجود النت، وليس بعيداً أن ذلك سيكون له تأثير أكبر على حضوره بين الشباب.
وبطبيعة الحال، لا يمكن تحديد ذلك بدقة كبيرة، ما لم تكن هناك دراسات ميدانية وإحصائية. وبالتالي تقيس تلك الصلة بدءاً من غناء الأُمهات وهن يقمن بتدبير المنزل. فالأكيد أن الاعتماد على التسجيلات المُتاحة في الأجهزة الإلكترونية، بصرف النظر عن نوعها، يحتل مكان الأداء الصوتي أو الدندنات في أوساط كثيرة من المجتمعات المحلية. كما أن حضرموت ليست استثناء، وبالأخص في المناطق الحضرية.
ومثل أي فن شفاهي، يبقى فن الدان مُهدداً بتأثيرات ثقافة العولمة والقرية الكوكبية. وبخلاف أنه موروث حافظ على خصوصيته، فإنه لن يبقى محصناً، نتيجة هيمنة ثقافات عالمية سائدة، وكذلك نتيجة تأثير ثقافات إقليمية تُهيمن عبر منصات الإعلام.
مما لا شك فيه، أن فن الدان بحاجة إلى مشروع للحفاظ عليه. وهو ما سيتحقق بدرجة كبيرة في حال نال اعتراف منظمة اليونسكو بهذا التراث العريق. فإدراجه إلى قائمة التراث العالمي اللامادي سيشكل دفعة قوية لحشد خبرات عالمية ومحلية لدعم عملية توثيقه والحفاظ عليه.
واللافت أن السلطات الثقافية الحالية في الحكومة لا تمنح الأمر أي اهتمام، كما لو كانت، بحسب أحد الناشطين، الذي طلب التحفظ عن اسمه، لا تعي أو تتفهم أهمية التراث. فتواجد الدان ضمن الاعتراف الدولي بقيمته كموروث، لا يُمثل فقط أهمية للمجتمعات الحضرمية، إنما بدرجة أساسية سيبرز القيمة العالمية للتراث الثقافي اليمني.
وكانت القاهرة استضافت الندوة الثقافية الدولية لفن الدان، في يوليو 2019، والذي نظمته وزارة الثقافة اليمنية ومنظمة اليونسكو. إذ جاء تنظيمها ضمن مشروع إعداد ملف فن الدان لإدراجه ضمن قائمة اليونسكو. وشهدت الندوة تقديم أوراق عمل حول الدان من خبراء دوليين ويمنيين. وعلى هامش الندوة، انعقدت جلسات فنية قدمتها فرق مهتمة بتقديم الدان الحضرمي وفق صورته التقليدية.
وكانت وزارة الثقافة قطعت شوطاً كبيراً في هذا الملف، في فترة الوزير السابق مروان دماج، الذي منحه اهتماماً شخصياً، حد تعبير ناشطين حضارم.
من جانبها، ردت منظمة اليونسكو على ملف الدان المُقدم من وزارة الثقافة. وركزت على عدة ملاحظات من أجل استكمال الملف، والذي بموجبه يمكن إدراج فن الدان ضمن قائمة الموروث الإنساني اللامادي.
وحددت اليونسكو نواقص مثل أن الملف لا يشرح بشكل كافٍ بعض الجوانب، مثل كيف ستسهم التسجيلات في تعزيز التنوع الثقافي، إضافة إلى أن دور المجتمعات في تنفيذ وتدابير الصون غير مذكورة بوضوح. وكذلك مشاركة المجتمع في بعض الجوانب.
وقال لـ”يمن سايت” مدير توثيق التراث في وزارة الثقافة اليمنية رفيق العكوري، إنهم يعملون على جمع المعلومات الأساسية للملف، لافتاً إلى أنهم يطمحون إلى تقديمها هذا العام.
في هذا السياق، كان من المُمكن استكمال الملف وتقديمه في نهاية العام السابق، لكن بسبب عدم توفر الدعم يزداد قلق العكوري ضياع عام آخر دون جديد.
ووفقاً لتجربة إدراج الأغنية الصنعانية، تم تقديم الملف، وخلال عامين استمرت وزارة الثقافة في أخذ ورد مع اليونسكو، حتى استكمال مشروع اليونسكو للحفاظ على الأغنية الصنعانية، والذي من خلاله -حسب العكوري- تم التوثيق والجمع العلمي وعمل الأبحاث والدراسات.
وأضاف العكوري أنه من الصعب عمل توثيق للدان خلال عام، إذ إنه بحاجة لعمل مستمر وميزانية محترمة.
ويقول لـ”يمن سايت” الأستاذ هشام السقاف، العضو في اللجنة المحلية التي شكلها وزير الثقافة السابق، لإعداد ملف المشروع، إنهم عملوا من عام 2019 إلى 2020، في إعداد الملف وتصحيحه بمشاركة خبراء دوليين، حتى تم قبول الملف من اليونسكو في يونيو 2021 وصار جاهزاً للتصويت عليه من أعضاء اليونسكو، وكان مقرراً في ديسمبر 2021.
لكن لجنة خبراء اليونسكو طالبت بتوضيح أربع نقاط في الملف قبل خضوعه للتصويت. غير أن الوزارة بالقيادة الجديدة لا تُبدي أي حماس إزاء الملف. ومازال المهتمون يبحثون عن فرصة لتقديم الرد على الملاحظات المطلوبة، إما هذا العام أو الذي يليه. لكن تقاعس الوزارة الحالية لا يشكل فقط تعطيلاً لمشروع إدراج فن الدان ضمن القائمة العالمية للتراث الإنساني اللامادي، إنما تهديداً لنجاحه. ويطالب المهتمون في المجتمعات المحلية في حضرموت، الحكومة بأن تمنح هذا الملف الاهتمام الذي يستحقه، كونه يعزز حضور اليمن ثقافياً على الصعيد العالمي، وتلك مهمة على عاتق الحكومة اليمنية ككل.