احتفل اليمنيون، اليوم، الأول من يوليو، بيوم الأغنية اليمنية، في محاولة لإعادة الروح والسلام إلى هذا البلد الذي أنهكته الصراعات على السلطة، والفساد، ما جعل الشتات ملازماً لحياة اليمنيين منذ انهيار سد مأرب حتى لحظة الحرب الراهنة، المستمرة منذ ثماني سنوات.
وبهذه المناسبة صدر عن “دار مواعيد” بصنعاء، كتاب “من هنا مرّ الغناءُ دافئاً.. شعراء ومطربون يمنيون”، للشاعر والكاتب اليمني محمد عبدالوهاب الشيباني. الكتاب عبارة عن مقالات نشرها الشيباني خلال السنوات الست الماضية، تناولت تجارب عدد من المطربين والشعراء الغنائيين من أجيال مختلفة.
وفي العاصمة المصرية القاهرة، نظم المركز الثقافي اليمني، مساء اليوم، ندوة بالمناسبة، تحدث فيها الباحث نزار غانم، عن يوم الأغنية اليمنية، ومتطلبات النهوض بها. كما تحدث الباحث الفرنسي جان لامبير، والمطربة والباحثة التونسية مهر الهمامي، عن الغناء الصنعاني، فيما قدمت المطربة إيمان إبراهيم شهادة عن تجربتها في الغناء، كما تحدث الباحث رفيق العكوري عن الدان الحضرمي.
تجريف وترهيب
في عام 2021 أصدر وزير الثقافة والإعلام والسياحة في الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، معمر الإرياني، قراراً باعتماد الأول من شهر يوليو يوماً وطنياً للأغنية اليمنية. القرار جاء استجابة لحملة أطلقها نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الإعلامية “رداً على التجريف الذي تقوم به أطراف الحرب للذاكرة اليمنية بكل مستوعباتها، ومنها الغناء”، حسبما يقول لـ”يمن سايت” محمد عبدالوهاب الشيباني.
وأدت الحرب التي يشهدها اليمن على خلفية ما يسمى انقلاب 21 سبتمبر 2014، إلى سيطرة الانقلابيين على العاصمة صنعاء ومعظم مناطق شمال البلاد، وتمزق النسيج الاجتماعي، وانهيار الهامش الديمقراطي، وتصاعد لافت للهويات الطائفية والجهوية، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ اليمن الحديث والمعاصر.
يقول الشيباني: “الممارسات الفجة ضد الفن وتحريمه في خطاب الحوثيين (حركة أنصار الله) لعب دوراً مسرعاً في إعلان يوم الأغنية اليمنية، كنوع من أنواع المقاومة الشعبية السلمية لتغولات سلطات الأمر الواقع”.
عرف اليمن الغناء والآلات الموسيقية المختلفة في الحضارات السبئية والمعينية والحميرية قبل الميلاد، حسبما تظهر النقوش المكتشفة. يرجع القلقشندي (ت 1418م) الغناء في اليمن إلى عهد عاد، ويذهب المسعودي (ت 956م)، في مؤلفه “مروج الذهب”، إلى أن اليمن عرف نوعين من الغناء: الحميَري، والحنَفي، لكنهم -أي اليمنيين- كانوا يفضلون الحنفي، وكانوا يسمون الصوت الحسن بـالجدن”.
في كتابه “عَودٌ على العود.. الموسيقى العربية وموقع العود فيها”، الصادر عام 2016، ضمن سلسلة عالم المعرفة الكويتية، يذكر الباحث نبيل اللو، أن “أولى الآلات الموسيقية التي عرفها عرب شمال الجزيرة العربية قبل الإسلام، جاءتهم من عرب الجنوب، ومنها البربط أو المزهر، وهو الشكل الأولي للعود الذي نعرفه اليوم”.
استجرار وسرقات
إبان الاستعمارين البريطاني والعثماني لليمن، مثلت مدينتا عدن وصنعاء حاضنة إيجابية لعودة الروح للفن الموسيقي والغناء، بيد أن الأمر لم يدم طويلاً، فمع تسلم الإمام يحيى حميد الدين السلطة في شمال اليمن، مطلع القرن العشرين، هرب مطربون إلى عدن، على خلفية تحريم الغناء. ومع رحيل بريطانيا، واستيلاء الحركة القومية اليسارية على السلطة في 1967، رحل مطربون إلى دول الخليج، ومنهم فرسان خليفة الذي غنى للثورة، قبل أن يستقر به المقام في دولة الإمارات.
وعلاوة على هيمنة الثقافة السياسية التقليدية، وتوظيفها للأذرع الدينية السنية والشيعية، يلعب الفساد دوراً إضافياً في تبديد التراث الحضاري اليمني.
وأكد مصدران مطلعان طلبا عدم الكشف عن هويتهما لأسباب أمنية، أن موظفاً في المركز اليمني للموسيقى في صنعاء، سرق في العام 2017، كمية من أسطوانات الغناء الصنعاني، وهو مشروع نفذ في 2003 بتمويل من حكومة اليابان، وعلى ضوئه أدرجت اليونسكو الغناء الصنعاني ضمن قائمة التراث العالمي.
وفي وقت تسيطر فيه الأحزاب اليمنية بشكل مباشر أو عبر مليشياتها، على السلطة في الشمال والجنوب، ما جعل المشهد يخلو لأول مرة من المعارضة، تضاعفت وتيرة الفوضى في البلد الأفقر والأقل استقراراً في المنطقة، واختلط حابل الفساد بنابل العنف وتجريف الحريات.
وقالت مصادر رسمية إن ملف الدان الحضرمي الذي كان مقرراً تسليمه إلى اليونسكو في مارس الماضي، تعطل بعد تسليمه إلى مؤسسة تابعة لرجل الأعمال السعودي من أصل حضرمي، عبدالله بقشان الذي تعهد بتمويل العملية، بعد مزاعم عدم قدرة الحكومة على التمويل، إلا أن أياً من بقشان أو الحكومة لم يسلما الملف، ولم يتسنَّ لـ”يمن سايت” الحصول على تعليق رسمي.
والدان الحضرمي الذي قالت الحكومة اليمنية في وقت سابق إنها تسعى إلى إدراجه ضمن قائمة التراث العالمي، هو ضرب من الغناء الحضرمي انتشر قبل الإسلام في سائر أنحاء الجزيرة، باعتباره “أحسن الغناء وأجوده”، وفق تأكيد الباحث نبيل اللو.
وحتى ما قبل السيطرة الكلية لأحزاب الانقلاب على مؤسسات الدولة، ظلت مزاعم عدم توفر الإمكانيات غطاء لفساد عميق يضرب قطاع الثقافة والآثار، ما أدى إلى تعطل مشاريع التنمية الثقافية، وتحول الفنانين إلى متسولين، حسبما كشفت تقارير موثقة.
ويقول الباحث الموسيقي رفيق العكوري لـ”يمن سايت” إن السبب الرئيسي لجمود الأغنية اليمنية، وبروز ظاهرة استجرار أغاني الماضي، هو “عدم وجود كليات ومعاهد موسيقية، لأن معظم الفنانين يفتقرون للتأهيل الأكاديمي في الموسيقى. لهذا تجد الفنان إما يتساهل ويقوم بتقليد المقلد، أو يحاول تطوير الأغنية بجهل وعدم معرفة”.
هكذا يبدو الشيباني في كتابه الجديد ، كمن يستحضر بما يشبه الحنين، العصر الذهبي للأغنية اليمنية، وكتابها شمالاً وجنوباً، منذ ظهور شيخ المطربين اليمنيين علي أبو بكر باشراحيل، وإبراهيم الماس، وأحمد عبيد قعطبي، وعلي الجراش، وحامد عوض القاضي، مروراً بالمطرب “المثقف” محمد مرشد ناجي، وسالم بامدهف، وعبدالباسط عبسي، وأيوب طارش، وأمل كعدل، وقبل هذا وذاك الفنان علي السمة، ملحن ومؤدي أغنية البالة تغريبة اليمنيين، والمعبر الأبرز لشتاتهم عبر القرون. وهي تغريبة صنعها التسلط، وما انفك يعيد إنتاجها.