هوس التعلق بكرسي الحكم يقف وراء جُل الويلات والخراب العميم الذي نشهد، وذاك الذي لم نشهد بعد.
إن هذا الهوس لا يجعل المهووس -الحاكم- قصير النظر فحسب، بل عديم النظر والحلم والخيال، يعمل باليومي، ويحتكم لمنطق الوجبة الدسمة السريعة والصفقة -أية صفقة تبقيه على الكرسي- فهو لا يرى أبعد من الـ24 الساعة القادمة.
في الحالة اليمنية.. كنا نحسب أنه من غير الممكن أن ننزل إلى أسفل مما كنا عليه أو مما نحن فيه، لكن ذلك الهوس الجارف والمدمر أفضى بنا إلى ما دون أسفل السافلين و “الأسوأ في العالم”، وإلى الافتقار حتى لحق الإقامة الفلكلورية في العالم.
إزاء محنة الكرسي، صار لزاماً علينا -حسب عالم المستقبليات المغربي المهدي المنجرة- معاينة الأمور بمنظار علم الجيولوجيا، حيث الوصول إلى طبقات الأرض الأكثر عمقاً، يستوجب: نفض أو كشط الطبقة الأعلى، وعدم السماح بزيادة طبقات إضافية من الأوساخ، كما يحدث اليوم في اليمن سابقاً..!
لا جدوى من التعويل على نخبة متعفنة، جعلت من التسول: الشيء الوحيد الذي له مستقبل في اليمن.
لا فائدة من كل ما تبرمه هذه النخبة من صفقات و”اتفاقيات” مع بعضها وبعضهم، وكل ما من شأنه أن يصب في مجرى مراكمة المزيد من الحطب لنيران الحروب القائمة والقادمة.
لا ينفع مع قوارض الجيولوجيا الجاثمة على أرض السياسة في اليمن، غير نفضها وكنسها بأسرع وقت ممكن، فقد بلغت من التعفن مستوى التحلل الذي يهدد بتقويض ما تبقى من شروط الوجود البشري في اليمن، ولن نقول الإنساني أو الوطني وما له علاقه بعالم المجاز.
وكما ينبغي اعتماد معايير الجيولوجيا لمعاينة عهد عبد ربه، يتوجب اعتماد منظار البيولوجيا لمقاربة عهد سابقه القتيل علي صالح، الذي ينطبق على معظم عهده قانون البيولوجيا، إذ لم يتحقق في ذلك العهد غير الاستقرار بمعناه البيولوجي: الموت (راجع المنجرة، كتاب الإهانة).
في ذلك العهد تنكرت الكلمات لمعانيها، فهو لم يكن بالجمهوري ولا بالملكي و لا بالديمقراطي ولا بالوحدوي، هو عهد الاستيلاء على السلطة بالقتل، ومحاولة تأثيث بيت السلطة لسلالة “صالحية” عبر جامع الصالح وجمعية الصالح ومساكن الصالح وحرس الصالح وأمنه القومي ونجله “القائد” خلال 33 سنة ووو… جاءت لتكنسها سلالة “السادة” التي تجرجر خلفها موروث أكثر من 1000 عام و300 سنة من حروب الاستيلاء والإغارة والسلب المؤدلج، المُمَنهج والمُنَسَّب والمُؤصَّل والقادح بنسخة “شيعة الشوراع” التي يتفاخر بها قادة الحرس الثوري في إيران.
لم يكن بمقدور صاحب محاولة التأسيس والارتجال المتسرع لـ”سلالة”، الصمود أمام الكامن في مغاور واستحكامات مسوَّرة بفقه الحرب والتغلب والغلبة.. والراجح أن صالح لم يلتفت كأي نرجسي شاطح، لذلك المأثور الذي يقول بأنه “يمكنك أن تفعل ما تشاء بالحراب إلا أن تجلس عليها”، وما أتعسه حين جلس على رأس حربة تَخَوزَق بها بعد أن أسهم طويلًا في شحذها.
مطحنة الكراسي في اليمن -والكرسي الرئاسي خصوصاً- طويلة ومتطاولة، وقد جزَّت الكثير من رؤوس “الرؤساء” الذين تعاقبوا على أوصال بلدٍ مفكَّك أو “موحَّد” ومحدد المعالم بخطوط الدماء والأدخنة و”الاتفاقيات” والعهود والمواثيق التي تُبرم بين المتحاربين المتكاثرين والمرتزقة والانتهازيين والمليشيات المتكاثرة عبر الزمن، في اليمن، والتي صار أعراب الجوار يستثمرون فيها باستمزاجٍ متعطشٍ للتعاطي مع يمن بالتجزئة -يمن سابق- أقل كلفة، بدلًا من التعاطي مع يمن موحد بالموت والدم والوهم والكلفة العالية.