في قريته “دبسان” بمنطقة ردفان، محافظة لحج، احتفل الحاج عبدالكريم علي (67 عاماً) بولادة حفيد له بإطلاق الأعيرة النارية، في واحدة من العادات التمييزية الممجدة للذكر على حساب الأنثى. فالذكر الذي لا تطلق له الرصاص عند مولده، يغدو “ضعيف شخصية، وعديم رجولة، وقد يتميز ببعض صفات الأنثى”، يقول ل”يمن سايت” الحاج عبدالكريم، موضحاً أنه بإطلاق الرصاص يثبت رجولة المولود منذ اللحظة الأولى.
يقول ل”يمن سايت” المدرس في كلية التربية جامعة عدن، الدكتور صلاح العلياني،: “إطلاق الرصاص عادة متوارثة، وهي إشارة لإخبار الناس أن المولود جاء ذكراً، وإذا لم يحصل إطلاق رصاص يظنه الجميع أنثى”. مشيراً إلى أن هذه العادة، وإن كانت لا تقتصر على اليمن، إلا أن تجاوزها يبدو صعباً.
وشم الرصاص
وما يدلل على رسوخ هذه العادات، أنها باتت بمثابة وصمة مجتمعية تطال الذكور والإناث معاً، حسبما تفيد شهادات.
وتروي الستينية أم عبدالودود، ل”يمن سايت” معاناتها وولدها الذي حرم عند مولده قبل أربعة عقود من إطلاق الرصاص، نظراً لغياب والده حينها، ولهذا السبب، مازال بعض أهالي القرية ينعتون عبدالودود بالنسواني “برغم أن ابني رجال وسيد الرجال”، تقول الأم.
ولا تقف مفاعيل هذه الوصمة عند الذكور فحسب، بل تمتد سلباً إلى عالم الإناث أيضاً، فبعض قبائل الصبيحة، مازالت ترجع السلوك المتمرد أو الرجولي للأنثى إلى إطلاق النار يوم مولدها، حسبما يؤكد ل”يمن سايت” المدرس في كلية الإعلام جامعة عدن، الدكتور علي غالب الصبيحي، المنتمي إلى ذات المنطقة الواقعة إدارياً ضمن محافظة لحج .
ويرى الصبيحي أن إطلاق الرصاص احتفاء بولادة المولود الذكر، بات فعلاً لا إرادياً نتيجة ترسخ هذه العادات في اللاوعي الجمعي، تعزز ذلك مع استمرار الطابع الذكوري للمجمتع اليمني .
وبحسب أستاذ النقد والحضارة في جامعة عدن، الدكتور مجيب الرحمن الوصابي، فإن إطلاق الأعيرة النارية هو نتيجة رواسب ثقافية راسخة، وموروث يرمز للفرح، كما أنه نوع من المبالغة بالذكر؛ “لأن الذكر يأخذ مكانة أبيه، ويكون السند والظهر والحامي والمساعد، حسب تفكير القبيلة”، يقول الوصابي ل”يمن سايت”.
ويرى الوصابي أن “المجتمع المعاصر عاجز عن الوقوف أمام هذا الميراث الضخم والخطير؛ لأن الطبيعة نفسها والسياق نفسه فرضا ذلك، فسكان القرية يحتاجون من يحميهم ويساعدهم في الأرض، وجلب المال الذي لا تستطيع الأنثى أن تجلبه؛ لأن العمل للأنثى عيب وعار. فالمسألة هنا مرتبطة بعادات وتقاليد متوارثة”.
بعث الماضي
في مذكراته الصادرة بعنوان “الإمارات الجنوبية اليمنية 1937-1947″، يبدي اللبناني نجيب سعيد أبو عز الدين، انزعاجه من ظاهرة إطلاق الرصاص التي كان يٌستقبل بها عند زيارته للمناطق القبلية، إبان عمله في إدارة المستعمرة عدن، بوظيفة مساعد ضابط سياسي في المحميات، في أربعينيات القرن العشرين.
وعلى الرغم من مضي أكثر من نصف قرن على سقوط نظام الإمامة الزيدية في شمال اليمن (1962)، ورحيل الاستعمار البريطاني من جنوبه (1967)، إلا أن المجتمع اليمني ظل يراوح ما بين الحداثة والتقليد.
.
وتوازياً مع انتشار السلاح بين اليمنيين، الذي يقدر بأكثر من 60 مليون قطعة، تفاقمت ظاهرة إطلاق النار في المدن في المناسبات، مثل الأعراس والفوز في مباريات كرة القدم، فيما اختفت بعض التقاليد القديمة مثل “الشباخة”، وهي أن يقدم العريس إلى الأخت الأكبر لعروسه مبلغاً من المال تعويضاً عن كونه “شبخ عليها”، أي تجاوزها واختار أختها الصغرى، حسبما تذكر أم عبدالودود.
ومن العادات التمييزية التي اختفت تقريباً، دوس العريس على قدم عروسه عند وصولها إلى عتبة باب منزل الزوجية. إذ شاع الاعتقاد أن الزوج الذي لا يدوس على قدم زوجته يفقد سيطرته عليها وطاعتها له، ويجعلها هي المسيطرة.
وبحسب الوصابي، لا يمكن احترام هذه الظواهر، لكن يمكن تفهمها “وعلى المجتمع المحاولة قدر الإمكان تجاوز نظرة الانتقاص للفتاة والتقليل من شأنها”.
ويرشح من أحاديث الذين تواصلت معهم معدة التقرير، وجود تفاوت في انتشار ظاهرة إطلاق النار للمولود الذكر بين المناطق اليمنية.
وفي حين يشير مدير برنامج الغذاء العالمي في منطقة ردفان، عبدالله راجح العبدلي، إلى تفشي ظاهرة إطلاق الرصاص في مناطق ردفان، بحيث بات الجيران يشاركون المحتفل إطلاقه النار، ينفي نائب عميد كلية الآداب في جامعة إب، الدكتور علي السماحي، وجود هذه الظاهرة في محافظة إب.
وفي محافظة الجوف يطلق الرصاص للمولود الذكر في حال جاء بعد خمس إناث، وفق الباحث في النوع الاجتماعي إبراهيم عدنان، أما في مأرب فتكاد تختفي هذه الظاهرة، أو تحدث في حالات نادرة، كأن يأتي المولود الذكر بعد أكثر من 10 سنوات من الزواج، أو أن يكون المولود ابناً لشيخ قبيلة، حسبما يؤكد الباحث علي المسل، بينما تقتصر في تهامة على بعض مناطق شمال الحديدة، حسب الباحث في النوع الاجتماعي الدكتور مطهر الأهدل .