لأسباب دينية سياسية تتصل بعلاقته باضطهاد النصارى في نجران، ومحرقة “الأخدود”، وعلاقته باستيلاء “الأكسوميين” الأحباش على اليمن.. نال الملك اليمني “ذو نوّاس الحِمْيَري” شهرة عالمية واسعة وخالدة من خلال التراثين المسيحي والإسلامي. وهذه الشهرة، وإن كانت سلبية في معظمها، يتجلى فيها كسفاح من طراز سادي مريع، إلا أن له فيها جانباً آخر مشرقاً، يظهر فيه كبطل وطني، وزعيم قومي، وشهيد قضية وطنية.
تتوقف العملية على نوعية الزاوية التي ننظر من خلالها، وحتى من الزاوية الدينية تتفاوت قتامة الصورة بين المصادر المسيحية التي ترى فيه شراً مطلقاً، بسبب حروبه ضد المسيحية في اليمن، وبين المصادر العربية الإسلامية التي -وإن جعلته البطل الشرير لسورة “الأخدود”- تتيح المجال لجانب قومي نبيل مرتبط بحروب الرجل ضد الأحباش. هذا فضلاً عن النزعة القومية اليمنية التي كُتب التاريخ العربي القديم على ضوئها، ويتجلى فيها بكل سمات البطل العظيم.
وعلى كلٍّ، ليس من المهم إن كان الرجل بطلاً أو شريراً، بل الحقيقة التاريخية المحفوفة هنا بالكثير من الالتباسات والغموض، بسبب الطبيعة الميثولوجية للمصادر التراثية، وتضارب معطياتها الغزيرة من جهة، وشحة الوثائق التاريخية: نقوش أو كتابات كلاسيكية مزامنة أو قريبة من عصره، من جهة أخرى.
ومع ذلك. هناك ما يستوجب المغامرة في خوض هذا العماء، على ضوء هذه الوثائق القليلة، والمناهج، والمقاربات الحديثة الجزئية العرضية هي الأخرى، للتحقق قدر الإمكان من الملامح الحقيقية لشخصية الرجل، والتحقيق المستقل في دوافعه الموضوعية، والملابسات المحلية والدولية لتلك الممارسات التاريخية، والخروج بأقرب تصور موضوعي ممكن عن حياة هذا الملك وشخصيته وأدواره التاريخية.
هوية ملتبسة
ظهر الملك “ذو نوّاس” في النقوش اليمنية باسم “يوسف أسأر”، وقد احتفظت المدونة التراثية العربية، جزئياً، بالاسم الأول “يوسف”، واختلفوا حول بقية الاسم، بما يتصل بنسبه، بين “يوسف بن شرحبيل” وغيره، كما اختلفوا هل “يوسف” اسم أصلي أم طارئ؟ بعضهم يرى أنه اتخذ هذا الاسم العبري بعد تهوده، وأن اسمه الحقيقي: “علي بن زيد.. الجمهور”، أو “علي بن الحارث بن زيد الجمهور”، أو “زرعة بن تبان أسعد الحِمْيَري”.
في المقابل، ظهر اسمه في المصادر المسيحية بصيغ عديدة متباينة بتعدد الجهات التي تحدثت عنه، بين الاسم “مسروق” الذي ظهر به في كتاب “الشهداء الحِمْيَريين”، والاسم العبري “فنحاس” “phin ‘has” في النصوص الحبشية، كما ظهر بتنويعات متعددة للقبه الشهير “ذو نوّاس”، مثل “Dunaas” في الكتابات اليونانية، و”دميون”، “دميانوس” ““dimianos في النصوص الرومانية.
في المصادر العربية أن الرجل “كانت له ذؤابتان تنوسان على عاتقه”، وهكذا اكتسب هذا اللقب “ذو نوّاس”، وهو تعليل ينطلق من مرجعية لغوية عربية، لا يمنية قديمة، وبالشكل الذي تكرر في تعليل لقب الشاعر العباسي الكبير “أبو نوّاس”، كما اختلفوا كالعادة بين كون هذا اللقب لقبه هو أم لقب أبيه، ذكر بعضهم أنه ابن “ذو نوّاس”، ونص بعضهم على أن اسمه “يوسف بن “ذو نوّاس” بن تبع الحِمْيَري”.
يمكن افتراض أن لقب “ذو نوّاس” نسبة إلى أسرة يمنية تحمل هذا اللقب، على غرار “ذي يزن” أو “ذي جدن”، وقد ذكرتها بعض مصادر التراث والأنساب، لكن لا وجود في النقوش اليمنية لأية إشارة إلى وجود أسرة بهذا الاسم، وهذا لا ينفي هذه الفرضية بالضرورة، فقد تكون هذه الأسرة عادية مغمورة، وبالتالي كان هو بنفسه مغموراً من عموم الشعب.
والأرجح أنه كذلك، رغم وجود خلاف حول أصله. معظم المصادر ذكرت أنه يمني صميم، وأنه كان من أبناء الملوك، وأنه ورث الملك عن أبيه، وأنه آخر ملوك حِمْيَر.. بينما زعم “ابن العبري” أن أصله من أهل الحيرة، وأن أمه كانت يهودية من أهل “نصيبين”، وقعت في الأسر، فتزوجها والد “يوسف”، فأولده منها، ويعني هذا أنه لم يكن يمنياً، بل كان أجنبياً وافداً. وكان يهودياً منذ البدء!
صورة الملك
والحاصل أنه لا يمكن التحقق من أي شيء عن “ذو نوّاس” قبل منتصف العقد الثاني من القرن السادس للميلاد، فلا شيء مؤكد حول طريقة وصوله إلى السلطة، ولا نوعية علاقته بالملك الحميري السابق، ولا كيف انتقلت السلطة إليه ومنه، وإن كان من المؤكد أن الملك السابق له مباشرة هو الملك “معد يكرب يعفر”. هذا الملك هو آخر من حمل اللقب الملوكي الرسمي الحِمْيَري التقليدي الطويل: “ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات وأعرابها في الجبال والتهائم”.
إذا صح أن هذا الملك توفي عام 522م، فقد برز نجم “ذو نواس” قبل وفاته بسنين، والمؤكد أن هذا الملك كان لايزال حياً عام 631 من التأريخ الحِمْيَري، الموافق لعام 516م، ويبدو أنه فقد حينها السيطرة تماماً على الفتنة التي اندلعت بين قبائل: سبأ وحِمْيَر ورحبة وكدت “كندة” وحتى مضر وثعلبة في الشمال.. في خضم صراعات فئوية، وحروب أهلية، ونزعات ونزاعات فئوية، مزقت اليمن القديم من الداخل تماماً، وجعلته هشاً أمام التدخلات الأجنبية.
من تحت ركام هذه الفوضى العامة العارمة، ظهر “ذو نواس الحميري”، ومع أول ظهور له على المسرح السياسي أطلق على نفسه، لقباً ملكياً فريداً جديداً من نوعه: “ملك كل أشعبن = ملك كل الشعوب”، متخلياً عن اللقب الملكي الحميري التقليدي. كما لو أنه كان يؤسس أو يطمح لتأسيس حقبة يمنية سياسية جديدة، ودولة مختلفة، غير الدولة الحِمْيَرية التي كانت قد انهارت في عهده.
وهذا يؤكد أنه لم يكن من الأسرة الحاكمة السابقة، وفي التراث العربي أن الملك السابق لذي نواس اسمه: “لخيعة ينوف ذو شناتر”. شخص من خارج البيت الملكي، اغتصب العرش، وكان فاسداً سفاحاً قتل خيار الناس، وكان شاذاً جنسياً، وسادياً، يلوط قهراً بأبناء الأكابر، وفي علاقته بـ”ذو نوّاس” تضيف: وكان “ذو نوّاس” حينها “غلاماً جميلاً وسيماً ذا هيئة وعقل”، فطلبه الملك ليفعل به كما كان يفعل بأبناء الملوك قبله، “فلما خلا به، وثب عليه “ذو نوّاس” بالسكين، فطعنه به حتى قتله، ثم احتز رأسه، فخرجت حِمْيَر والأحراس في أثر “ذو نوّاس” حتى أدركوه، فقالوا له: ما ينبغي لنا أن يملكنا إلا أنت؛ إذ أرحتنا من هذا الخبيث، فملَّكوه”، و”اجتمعت عليه حِمْيَر وقبائل اليمن”!
هكذا ولد البطل “ذو نوّاس” كمحرر ومخلص للشعب من الطاغية والطغيان والظلم والقهر والفساد.. وما يمكن أن نفهمه أيضاً من هذه الأسطورة أن “ذو نوّاس” وصل إلى السلطة عبر الانقلاب على الملك السابق، وهو شيء غير مؤكد، أما حكاية الملك الطاغية المغتصب للعرش، والمولع بالاغتصاب الجنسي، والذي تكون نهايته على يد بطل كان يريد اغتصابه، فيقتله ويحز رأسه، ويصبح ملكاً بعده.. فقد تكررت أكثر من مرة في التراث التاريخي اليمني، كما في بعض روايات قصة وصول الملكة “بلقيس” إلى العرش!
حسب السرديات الدينية، فهذه الملكة الأسطورية تهودت على يد الملك النبي سليمان، وبالتالي يرى بعضهم أنها أول من أدخل اليهودية إلى اليمن، لكن لا دليل على وجود هذه الملكة، فضلاً عن يهوديتها، مع أهمية الأخذ بالاعتبار أن اليهودية ديانة قديمة في حِمْيَر، وتمكنت مبكراً من الانتشار بين النخب الإدارية والسياسية على الأقل، ثم أصبحت ديناً للدولة، في عهد الملك الحميري “يكرب يوهأمن (375-400م)، وبشكل خاص في عهد ابنه الملك الأشهر “أسعد الكامل” “أبو كرب أسعد” (400-440م).
وفي ما يتعلق بـ”ذي نواس” من المؤكد -استناداً على اسمه العبري “يوسف”، وبعض العبارات التوحيدية التي تظهر في نقوشه- أنه كان يهودياً، بل يبدو أن حركة تبشيرية يهودية واسعة في اليمن رافقت عهده، وإن كان هناك من يشكك في هذه النقطة.
بين الدين والسياسة والاقتصاد
رغم كل الضعف والوهن والانهيار والاضمحلال… الذي كانت عليه اليمن في تلك المرحلة على الصعيد المحلي، ظلت، على الصعيد الدولي. محتفظة بأهميتها الاستراتيجية الجيوسياسية العالية بالنسبة للاقتصاد الدولي، والمتأتية، فضلاً عن أشياء كثيرة، من كونها مطلة على المنفذ البحري الأهم للتجارة الدولية، ما جعلها محلاً لتنافس القوى الكبرى، وبالذات بالنسبة للبيزنطيين، بعد قطع الساسانيين المعبر البري لطريق الحرير.
كان اتخاذ الدين سلاحاً لأغراض سياسية، هو طابع المرحلة، لدى جميع الأطراف، وعلى كل المستويات: الديانة المسيحية الوديعة القائمة على الحب والسلام، تحولت منذ وصلت إلى سلطة روما، على يد الامبراطور “قسطنطين” (306-337م)، إلى أداة استعمارية بامتياز، وبخاصة في ما يتعلق باليمن والشرق، مع انقسام الإمبراطورية الرومانية عام 395م، وتأسيس الإمبراطورية المسيحية الشرقية وعاصمتها بيزنطة.
من جهتها، الديانة اليهودية المغلقة عرقياً على نفسها، انفتحت في اليمن خارج سلالة إسرائيل، لتنتشر بين أوساط الشعب والطبقات الحاكمة، وبالذات بعد دخول وانتشار المسيحية، وفي عهد ذي نواس، ومن قبل، كانت هاتان الديانتان تتصارعان، وتتشاركان في وضع نهاية تراجيدية للحضارة اليمنية القديمة.
ولم يكن ذلك الصراع المحلي معزولاً عن الصراع الدولي المحموم بين الفرس والروم على النفوذ السياسي والاقتصادي في المنطقة، وكما استخدم الروم والأحباش الدين المسيحي غطاءً لدوافعهم التوسعية، كان من السهل على اليمنيين ملاحظة الارتباط بين انتشار المسيحية في بلادهم، وازدياد النفوذ الروماني الحبشي فيها، كما لو كانت المسيحية ثغرة للنفوذ الروماني، وقنطرة للاحتلال الحبشي.
لقد تولدت لدى اليمنيين، خلال صراعهم الطويل مع الأحباش، نزعة قومية أيديولوجية ضدهم. ورغم أن غالبية أهل اليمن كانت وظلت وثنية، يرى بعض الباحثين أنهم شجعوا اليهودية ضد المسيحية التي تمثل دين المحتلين، وأن الملك الحِمْيَري “يوسف أسأر” “ذو نوّاس” تهوَّد “رغبة منه في أن يقاوم ديناً سماويّاً بدين سماويٍّ آخر، فاعتبر اليهودية ديانة وطنية ترادف التحرر والاستقلال، وتمثل الروح القومية في اليمن”.
هكذا ظهر “ذو نوّاس الحِمْيَري”، واعتنق اليهودية، “كرد فعل لنشاط التغلغل المسيحي، والنشاط والضغط الاستعماري الروماني الذي يكمن وراءه”، وأعلن الحرب على أتباع المسيحية، ومارس نوعاً من الاضطهاد عليهم، ولا سيما في نجران، وإن لم يكن التنكيل بالدرجة والطريقة الملحمية التي روجتها الأطراف المسيحية في المنطقة.
برزت العوامل الدينية والاقتصادية والسياسية بدرجات متفاوتة في نصوص الأطراف المعنية، كتبرير للعنف والحرب، وفي مقابل نقوش “ذو نواس” التي يخفت فيها العنصر الديني لصالح السياسي، في تعامله مع أهل نجران وغيرهم باعتبارهم متمردين على الدولة، يبرز الدافع الاقتصادي والديني لدى الرومان الذين يذكرون أن المشكلة هي قيام “ذو نوّاس” بقتل تجار الروم في اليمن، ونهب بضاعتهم “انتقاماً من الروم الذين أساؤوا في بلادهم معاملة اليهود واضطهدوهم”، فتضررت تجارة الروم والأحباش، بينما يبرز الدافع الديني بقوة لدى الأحباش ومسيحيي المشرق الذين رأوا أن التدخل الحبشي في اليمن، كان فقط لإنقاذ نصارى نجران!
محرقة نجران.. بين الحقيقة والأسطورة
من المهم الأخذ بالاعتبار أن اضطهاد “ذو نوّاس” لنصارى نجران، تمّ خلال مقاومته الحملات العسكرية الحبشية على اليمن، لا قبلها، وبعكس الآراء التقليدية، لم يكن هذا الاضطهاد سبباً في التدخل الحبشي في اليمن، رغم استخدامه ذريعةً لمزيد من التدخل، فللأحباش في اليمن تاريخ احتلالي طويل متذبذب، منذ القرن الثاني للميلاد، بخاصة في المناطق الساحلية الغربية، ورغم إجلاء الأحباش تماماً عن اليمن حوالي عام 270م، إلا أنهم لم يتوقفوا عن التحرش بالسواحل الغربية، والعمق اليمني، وفي عهد الملك السابق لـ”ذو نوّاس”، كانوا مسيطرين حتى على “ظفار” عاصمة الدولة الحِمْيَرية.
أي أن احتلال الأحباش لأجزاء من اليمن كان حاصلاً قبل مولد “ذو نوّاس” بقرون، وشهد هذا التاريخ الاحتلالي الطويل ثورات وانتفاضات عديدة، توجت بانتفاضة “ذو نواس”، ومهما كان تنكيل الرجل بأهل نجران، لا شك أن ذلك “الهولوكوست” الشهير، بالصيغة الكلاسيكية المروعة، أسطورة مسيحية، وجدت طريقها إلى التراث الإسلامي عبر بعض المفسرين الذين ربطوها بقصة “الأخدود” في “سورة البروج”، وهو ربط لم يقبله كثير من المفسرين والمحدثين، واختلفوا في تفسير “قصة الأخدود”، بين كونهم هم أصحاب الرس، أو قوم من المجوس، وبين كون الأخدود كان باليمن، أو بالعراق، أو بالشام، ضمن تعارضات حاول بعض المفسرين مثل الرازي والطبري حلها، وقال “القفّال”: “ذكروا في قصة أصحاب الأخدود روايات مختلفة، وليس في شيء منها ما يصح، إلا أنها متفقة في أنهم قوم من المؤمنين خالفوا ملكاً كافراً كان حاكماً عليهم، فألقاهم في أخدود”.
كما نفى كثير من المؤرخين المعاصرين وقوع مثل تلك المحرقة التي لم ترد أية إشارة لها في النقوش ذات العلاقة، علاوة على أن هذه النقوش لا تكشف عن أي مظاهر لعوامل أو دوافع دينية، في ذلك الصراع، لكن المؤكد أن “ذو نواس” قام بالتنكيل بأهل نجران، بل افتخر به في نقوشه، ويحتمل أنه قام بحرق بعض الأماكن، كان حرق المدن من تقاليد الحروب في تلك الفترة، وعندما سيطر الأحباش على اليمن لاحقاً، كما قال “ميخائيل بتروفسكي”، قاموا بمحارق انتقامية بنفس الدرجة إن لم تكن أشد.
صدامات وحروب
اقتحم “ذو نواس” الحياة السياسية والعسكرية ربما قبل عام 518م. كان أمامه دولة منهارة، وسلطة ممزقة بين الأقيال والعباهلة، وحاكم حبشي يسيطر على أهم مناطق البلاد، وحاكم حميري متصالح مع بيزنطا ودولة الأحباش، فشرع في الصدام مع دولة الأحباش بدايةً بمحاولة الانقلاب على الحاكم الحبشي في ظفار، فاستنجد هؤلاء بالروم ودولة الحبشة، وبتحريض من القيصر، ومساعدته، أرسل الأحباش ضده أكثر من حملة، بين العامين 518 و525م.:
الحملة الأولى كانت في عام 633 من التقويم الحِمْيَري، الموافقة لسنة 518 للميلاد، ويمكن على ضوء بعض الموارد الإغريقية والحبشية افتراض أن الأحباش انتصروا على “ذو نوّاس”، في بداية هذه الحملة، ويبدو أنه انسحب بشكل تكتيكي، إلى الجبال للاحتماء بها، حتى يتمكن من حشد مقاتليه، وتنظيم صفوفه، وهو ما حدث في صيف هذا العام، وحسب النقوش فقد شنّ الملك “يوسف أسأر” في شهر أيلول “ذ مذرن”. هجوماً على عدة مناطق يسيطر عليها الأحباش، ثم في شهر حزيران “ذ قيضن” من نفس العام، شنّ هجوماً على “ظفار” مقر الأحباش، واستولى على “القليس = الكنيسة”، أي كنيسة “ظفار”.
كان لـ”ظفار” أهمية رمزية عالية باعتبارها العاصمة الحِمْيَرية القديمة، وأهم معاقل الأحباش في اليمن، ما يجعل لتحريرها أهمية سياسية وعسكرية ورمزية عالية، كما أن لإشارته إلى السيطرة على كنيستها، وإشاراته إلى كنائس أخرى خلال معارك أخرى، رسائل دينية رمزية مهمة، ذات علاقة مباشرة بالصراع الديني، كما لو أن إسقاط الكنيسة والمسيحية في اليمن، نصر سياسي موازٍ للنصر العسكري، ومرادف للتحرر الوطني.
بعد تحرير “ظفار” توجه الملك “ذو نوّاس” إلى القبائل المتاخمة للساحل الغربي، وكانت هذه في معظمها قد تنصرت، ولها علاقة سياسية مع الحبشة، بدايةً بقبيلة “أشعرن”، “الأشاعر”، ثم سار بجيشه إلى “مخون” “المخا”، و”شمر” “شمير”، وحسب مبالغاته فقد أباد سكان المخا، واستولى على كنيستها، واجتاح شمير ودك معاقلها، وكانت المحصلة: 13000 قتيل، و9500 أسير، وغنم 280.000 رأس ماشية، وغنائم أخرى كثيرة!
بعد كل هذه الانتصارات اتجه “ذو نوّاس” بجيشه شمالاً إلى “نجرن: نجران”، ومعه قبائل همدان وأعرابهم، وأعراب “كدت” “كندة” و”مردم” “مراد” و”مذحج”، وأقيال وسادات يزن منهم “سميفع أشوع” ومعهم قبائلهم، فأنزل بالأحباش الذين كانوا قد تحصنوا هناك بالمصانع والحصون، وبمن ساعدهم من القبائل، وبمن كان قد تجمع معهم.. خسائر فادحة. ومن هنا بدأت قصة المحرقة، وأيّاً كان حجم تلك المحرقة، فقد ذاع صيتها بسرعة هائلة على امتداد المنطقة، كانت -كما سبقت الإشارة- جزءاً من الدعاية السياسية والعسكرية لحرب دولية يتزعمها الفرس والروم.
في العام 523م، كان “ذو نواس” لايزال هو سيد الموقف في اليمن، كان قد سيطر على مجمل الساحل الغربي وصولاً إلى “سسلت مدين”، “باب المندب”، وتحسباً لانتقام حبشي أكبر ومؤكد، قام بتحصين الثغور الساحلية، بخاصة قرب باب المندب، بالمعدات والسلاسل، ثم بدأ في محاولة الاستفادة من صراعات القوى الدولية، في تلك الفترة كان “ذو نوّاس” -ويهود المنطقة عموماً- يميل للفرس، وفي مقابل تحالف الحبشة مع الروم. حاول إقامة تحالف إقليمي مضاد مع ملك الحيرة المنذر الثالث، ومن ورائه الفرس، فأرسل إليه بهذا الشأن، كما سعى إلى تحريض اليهود في فلسطين، بالثورة ضد الحكم البيزنطي، و”الانضمام إلى تحالف حِمْيَر وفارس واليهود ضد بيزنطة المسيحية وحليفها مملكة أكسوم”.
كانت استجابة المنذر الثالث لدعوة “ذو نواس” أكثر من باردة، وتصادف عندما وصلت الرسالة إليه أن كان في مجلسه وفد من قساوسة الروم، “فأشاعوا أن “ذو نوّاس” دعا المنذر في رسالته إلى أن يفتك بمسيحيي الحيرة، كما فتك هو بمسيحي نجران”، ولم يبدِ الفرس أية مبادرة إيجابية في هذا الشأن، وقد كانوا في عهد الشاه “قباذ الأول” (488-531م) مشغولين بدورهم بأزمتهم الدينية الداخلية الخاصة مع “المزدكية”.
علمت بيزنطا بشأن هذه المحاولات التحالفية، فسارعت إلى دعوة الفرس إلى مؤتمر حوار، عقد في منطقة “الرملة” قرب “الحيرة”، عام 524م، أرسل ذو نواس مبعوثاً خاصاً إليه، لكنه خرج خالي الوفاض، فقد أسفر المؤتمر عن اتفاقية تعهدت فيها بيزنطا بالتوقف عن أطماعها في العراق، مقابل تخلي الفرس عن تطلعاتهم في اليمن.. وهكذا ترك المناذرة والفرس “ذو نوّاس” يقاتل الأحباش ومن ورائهم بيزنطا.. وحيداً، في معركة غير متكافئة.
كانت الدعاية ضد “ذو نواس” قد ملأت أرجاء العالم المسيحي، وأججت المشاعر الانتقامية في العاصمة البيزنطية نفسها، وجعلت المعركة ضده حرباً مصيرية مقدسة، وهكذا دشّن الإمبراطور البيزنطي “جوستين الأول” (518-527م)، مع ملك الحبشة “كالب أصبحة”، تحالفاً استثنائياً، شارك فيه الأحباش بعشرات الألوف من المقاتلين، واشترك الروم فيه بطريقة مادية ولوجيستية، فأرسلوا أسطولهم من مصر، لحمل الجنود، كما أرسلوا سفناً محملة بالأسلحة والمؤن إلى الثغور اليمنية.
كان عام 640 من التقويم الحِمْيَري الموافق لعام 525م، عاماً فاصلاً في التاريخ اليمني القديم كله، وفيه تمكنت هذه الحملة الضاربة من السيطرة على السواحل الغربية، ثم توغلت إلى الداخل، وتمكنت من استعادة السيطرة على “ظفار”، وكسر مقاومة “ذو نوّاس”، وتبديد شمله، ومطاردته والقضاء عليه وعلى جيشه وكبار أعوانه.
سيناريوهات وأبعاد
كما في الأمور الأخرى.. اختلفت السيناريوهات التراجيدية المتخيلة عن نهاية “ذو نوّاس”، فيظهر في أحدها قتيلاً على يد قومه من “حِمْيَر”، كما في بعض الروايات العربية التي تقول إن قومه ثاروا عليه فقتلوه، وفي رواية يونانية أن الذي قتله قيل من حِمْيَر اسمه “إيدوج”، قتله بسبب اضطهاده التجار المسيحيين الروم، ما تسبب بكساد الأسواق التجارية اليمنية، فجمع “إيدوج” الأقيال، وأعلن الثورة ضد “ذو نوّاس”، فقتله، ثم اعتنق المسيحية.
السيناريو الآخر، يظهر فيه “ذو نوّاس” أسيراً ثم قتيلاً على يد أعدائه من الأحباش، كما في روايات حبشية وإغريقية يؤكدها نقش “حصن غراب” الشهير. وفيه أن الأحباش تمكنوا “من قتل الملك وأقياله الحِمْيَريين والأرحبيين”. لم ينص هذا النقش على اسم الملك القتيل، لكن الأرجح أن “ذو نوّاس” هو المقصود.
السيناريو الثالث أنه وضع بنفسه حداً لحياته، وانتحر غرقاً في البحر، وفي التراث العربي أنه قاوم الأحباش ببسالة، “فلما رأى أنَّه لا طاقة له بهم، اقتحم البحر بنفسه وفرسه، فغرق فيه هو ومن تبعه من أصحابه”. ضمن استطرادات أخرى جعلت من وقوفه في وجه الأحباش، واستبساله في قتالهم حتى النهاية، وتفضيله الموت على الأسر، مفخرة في سجله الوطني والقومي، كما في شعر “علقمة ذو جدن الحِمْيَري”، ومنها:
أو ما فعلت بقيل حِمْيَر يوسفٍ… أكل الثعالبُ لحمه لم يقبرِ
ورأى بأن الموت خيرٌ عنده… من أنَّ يدين لأسودٍ أو أحمرِ
ربما لا حقيقة تاريخية لهذا الشاعر “علقمة ذو جدن الحِمْيَري”، وإن ذكره الهمذاني في الأنساب، وقال: كان مخضرماً، ولقّبه بعضهم بـ”النوّاحة”، لأنّ غالب شعره مراثي في حِمْيَر، والأرجح أن شخصيته وأشعاره وُضِعت في العصر الأموي أو العباسي، لكن هذا لا يقلل من أهمية أشعاره، وعلى العكس يؤكد حقيقة أن شخصية “ذو نوّاس” الحِمْيَري كبطل قومي، ظلت طويلاً بعد الإسلام، حية ملهمة في الذاكرة والثقافة العربية واليمنية.
..
المصادر:
تاريخ الطبري، محمد بن جرير الطبري (ت: 310هـ)، دار التراث -بيروت، ط3، 1387هـ.
تاريخ العرب القديم، توفيق برو، دار الفكر، ط2، 2001م.
تفسير الطبري.. تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، ط1، 2000م.
تفسير الرازي، فخر الدين الرازي، دار إحياء التراث العربي -بيروت، ط.3، 1420هـ.
التيجان في ملوك حمير، عبدالملك بن هشام (ت: 213هـ)، تحقيق: د. عبدالعزيز المقالح، مركز الدراسات والبحوث اليمني -صنعاء، ط2، 1979م.
جمهرة أنساب العرب، ابن حزم الأندلسي، تحقيق: لجنة من العلماء، دار الكتب العلمية -بيروت، ط1، 1983م.
خلاصة السير الجامعة لعجائب أخبار الملوك التبابعة، نشوان الحميرى، تحقيق: علي بن إسماعيل المؤيد، وإسماعيل بن أحمد الجرافي، دار العودة -بيروت، ط2، 1978م.
دراسات في تاريخ العرب القديم، محمد بيومي مهران، دار المعرفة الجامعية، ط2.
الديانة اليهودية في اليمن :مملكة حمير . د. يوسف يوفال طوبي، ترجمة: د. حميد العواضي، مجلة المسار،
مركز الدراسات والبحوث اليمني، العدد (59)، أغسطس 2019م، ص39 وما بعدها.
العرب في العصور القديمة، لطفي عبدالوهاب، دار المعرفة الجامعية، ط2.
كتاب “المعارف” ، أبو محمد عبدالله بن قتيبة الدينوري (ت: 276هـ)، تحقيق: ثروت عكاشة، الهيئة المصرية العامة للكتاب -القاهرة، الطبعة الثانية، 1992م، (1/70).
معالم تاريخ الشرق الأدنى القديم، محمد أبو المحاسن عصفور، دار النهضة العربية -بيروت -لبنان، ط1.
المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الدكتور جواد علي، دار الساقي -بيروت، الطبعة الرابعة، 2001م، (9/204).
مقدمة ابن خلدون، تحقيق: خليل شحادة، دار الفكر -بيروت، ط2، 1988م.
ملحمة عن الملك الحميري أسعد الكامل، ميخائيل بتروفسكي، ترجمة: شاهر كمال أغا، وزارة الإعلام والثقافة -صنعاء، ط1، 1984م.
المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، جمال الدين الجوزي، تحقيق: محمد عبدالقادر عطا، ومصطفى عبدالقادر عطا، دار الكتب العلمية -بيروت، ط1، 1992م.