تحت برج إيفل الشهير، المصنوع من حديد الجزائر المنهوب إبان الحقبة الاستعمارية، يؤدي شبان يمنيون رقصتي “البرع الصنعانية” و”الغية الحضرمية”، استعداداً للحفل الأوركسترالي الكبير المقرر أن تشهده العاصمة الفرنسية يوم 12 أكتوبر الجاري، بعنوان “نغم يمني في باريس”.
وحفلة باريس “رسالة فن وسلام تهدف إلى تعزيز التقارب الثقافي بين فرنسا واليمن والعالم”، كما يقول لـ”يمن سايت” قائد الفرقة الأوركسترالية اليمنية، محمد القحوم، الذي يراهن على أن تصبح الحفلة “حدثاً فريداً، كون الفريق حرص على أن يختار مقطوعات موسيقية غير مستهلكة، علاوة على ذلك اخترنا ألواناً غنائية جديدة ستُظهر اليمن بحلة لا نظير لها”.
ترميم الخراب وفي وقت تهاوت الطبقة السياسية اليمنية وأذرعها المسلحة في براثن المناطقية والطائفية والجهوية والاقتتال الأهلي، يسعى الفنانون اليمنيون الذين لطالما ازدرتهم النخب الحاكمة إلى ترميم صورة اليمن الحضارية التي مزقتها دورات الصراع على السلطة، مقدمين من خلال الموسيقى نموذجاً وطنياً وأخلاقياً قلما جسدته النخب السياسية، وفق ما يراه البعض.
“نريد أن نقدم للعالم صورة بلدنا الحقيقية غير التي صنعتها الحرب”، يقول القحوم. مشيراً إلى أن من أولويات فرقته تقديم أعمال نوعية تمنح الموسيقى اليمنية طابع العالمية، “فعملية التكرار غير مرغوب بها على الإطلاق لما لها من مردود عكسي”.
وحفلة باريس هي المحطة الثالثة ضمن مشروع السيمفونيات التراثية للفن اليمني، الذي تنفذه الفرقة الأوركسترا اليمنية، بقيادة القحوم، والتي بدأت انطلاقتها الأولى بحفلة احتضنتها العاصمة الماليزية كوالالمبور، في أبريل 2019، تلتها حفلة “نغم يمني على ضفاف النيل”، في العاصمة المصرية القاهرة، في مارس 2022. وسيشارك في حفلة باريس التي تنظم برعاية مؤسسة حضرموت الثقافية ووزارة الثقافة اليمنية، أكثر من 70 عازفاً ومؤدياً من اليمن وفرنسا، ودول عربية، يقدمون عشر مقطوعات موسيقية مستوحاة من الفنون الغنائية والموسيقية اليمنية، بينها مقطوعة تمازج بين الموسيقى اليمنية والفرنسية، كما سيتخلل الحفل مقطوعات غنائية نادرة تقدم لأول مرة بأسلوب أوركسترالي، حسبما أفاد القحوم.
وتضم حفلة باريس مختلف جهات اليمن تقريباً، حيث سيشارك مطربون كبار أمثال عبود خواجة وحسين محب ورمزي محمد. “فليس هناك ما هو أجمل من أن تسمع صوت بلدك الفني يصدح في سماء أوروبا، والناس تتوافد إلى سماع هذا الطرب الفريد”، يقول لـ”يمن سايت” الفنان حسين محب، موضحاً أن حدثاً كهذا “يجعلك تنسى الصعوبات، وتبذل أقصى ما عندك لكي تقدم رسالتك حتى تسمع صوت بلدك يعلو في دول أخرى”.
وأدت الحرب المستمرة منذ صيف 2014 إلى تمزق النسيج الاجتماعي، وتحول البلد إلى كانتونات. وخلافاً للكتاب والصحفيين الذين تشرذموا خلف أطراف النزاع، أظهر المطربون والموسيقيون تماسكاً نسبياً. ويعرب القحوم المنتمي إلى محافظة حضرموت، عن فخره بما تمتلكه اليمن من تراث فني عريق، لكن الفن اليمني -حسب القحوم- تعرض “للطمس، حيث تسببت الحرب بطي أعرق وأجمل الأغاني على مر التاريخ الفني اليمني”، كما “تعرضت الأغاني للنهب والسرقة دون أن يكون للجهات المختصة دور للحد من هذه الظاهرة”. لذلك “نحاول ولو بقدر بسيط ترميم ما حُطم”، يقول القحوم.
كسر القيود
وأدت الحرب التي ما كانت لتنشب أصلاً لو لم تسعَ إليها النخب السياسية الفاسدة، بتواطؤ من الأمم المتحدة، حسبما أكدت دراسة للمؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، إلى صعود لافت للقوى التقليدية والشمولية. وتتزامن حفلة باريس مع تعرض الفن داخل اليمن لهجمات من مختلف أطراف الصراع التي فرضت قيوداً على النشاط الموسيقي في صنعاء وعدن وتعز ومختلف المحافظات. وكان الفن الموسيقي اليمني ظل، على مدى عقود، محصوراً بأفقه الوطني، ونادراً ما تجاوزه إلى الفضاء الإقليمي والعالمي، باستثناء محاولات قليلة قدمها مطربون ومطربات يهود من أصول يمنية، في عواصم غربية. ويعول على حفلة باريس إيصال الفن اليمني إلى منصة العالمية. ويذكر القحوم أن فكرة “نغم يمني في باريس” تعود إلى أيام تلت حفلة ماليزيا، “كان لنا شغف كبير بأن تكون وجهتنا القادمة أوروبا، وتحديداً باريس، كونها دولة فنية عريقة”.
ومن أهداف حفلة باريس -حسب القحوم- “منح الفن اليمني شهرة واسعة، والبرهنة على أن اليمن تحب السلام والفن، ولديها مخزون كبير يزخر بمختلف الألوان الفنية”، كما من شأن الحفلة “زيادة رصيد الفن اليمني بما يحمله من مضمون وأداء وشعر وسياق”. وسيشارك في حفلة باريس من الجانب الفرنسي 40 عازفاً وعازفة. وهذا الخليط من العازفين اليمنيين والفرنسيين من شأنه صقل الخبرات وتوطيد العلاقة بين البلدين، “وهي الرسالة السامية التي يسعى إليها الفن”، كما يقول حسين محب الذي يرى في باريس “قبلة وروح الفن”، والصعود إلى مسرح من مسارحها سيمنح الأغنية اليمنية رواجاً، حسب رأيه. وتعد فرنسا من أبرز الدول الغربية التي أسهمت في التعريف بالموسيقى اليمنية من خلال حفلات وورش مشتركة نظمت في صنعاء وباريس، خصوصاً أثناء تولي الباحث الفرنسي جان لامبير رئاسة المركز الثقافي الفرنسي في اليمن.
ويأمل القائمون على حفلة “نغم يمني في باريس”، أن تسهم موسيقاهم في كسر الصورة النمطية السلبية التي أنتجتها هجمات ١١ سبتمبر، عن العرب والمسلمين.
يقول القحوم: “نريد أن نقدم العرب بأجمل صورة ممكنة بدلاً من الصورة الكارثية”، مراهناً على دور الموسيقى في كسر النظرة الغربية التي تختزل العرب في صورة حروب أهلية، وتنزع عن العربي اهتمامه بالفنون. ويرى عازف المزمار الشهير عبدالله جمعان، أن حفلة باريس لا تمثل تحدياً على مستوى تقديم الموسيقى اليمنية التراثية في قالب عصري فحسب، بل تنطوي على تحدٍّ تقني أيضاً، فاختلاف مناخ فرنسا عن اليمن يؤثر سلباً على صوت المزمار، ما يشكل تحدياً لجمعان، حسبما يقول لـ”يمن سايت”.
وفي حفلة باريس، كما في الحفلات السابقة، تبدو الفجوة الثقافية بين القالب الموسيقي التراثي وقالب الأوركسترا، بمثابة مشكلة رئيسة تواجه الفرقة. فعندما تحاول تقديم لحن تراثي محلي في قالب أوركسترالي، تصطدم بعدم استيعاب العازفين التراثيين للفكرة، وفق ما يعترف القحوم الذي شكا أيضاً من ندرة العازفين اليمنيين القادرين على قراءة النوتة الموسيقية.
ولئن نُظر إلى فرقة السيمفونيات التراثية اليمنية باعتبارها مفخرة لليمن، إلا أنها تشكل أيضاً إدانة للحكومات اليمنية المتعاقبة التي عجزت على مدى ما يزيد عن نصف قرن، عن تأسيس فرقة أوركسترالية وطنية.
ولولا الدعم السخي من مؤسسة حضرموت الثقافية التي يقف على رأسها رجل الأعمال الشهير عبدالله بقشان، ما كان لمشروع السيمفونيات التراثية أن يرى النور، خصوصاً في ظل استمرار الفساد داخل وزارة الثقافة اليمنية، والمتهم بالتهام ملايين الدولارات يجبيها سنوياً “صندوق التراث والتنمية الثقافية”، حسبما كشف تحقيق استقصائي نشر سنة 2020.