ها هو الظلام يُطبق نهائياً على عيني الشابة اليمنية نور أحمد غالب (32 سنة)، بعد أن فقدت تدريجياً 99.5% من قدرة الإبصار. نور الصماء البكماء منذ الولادة، ها هي تودع ما تبقى من بصيص نور عينيها، لتغدو حبيسة إعاقات ثلاث (صمم، بكم وعمى)، في حالة نادرة في بلد معاق بحروب متناسلة ولَّدتها صراعات النخب السياسية على السلطة. لكن نور لم تستسلم، وتمكنت من هزيمة الظلام والصمم والبكم معاً.
عندما أطلقوا عليها اسم “نور”، لم يكن أهلها يعلمون، على الأرجح، أن طفلتهم ستمضي أيامها شهراً بعد شهر وسنة بعد سنة، نحو عمى كلي. وفي 2004 فقط أخبرهم الطبيب أن نور تعاني ضموراً في خلايا الشبكية. وأن ضمور الخلايا وموتها سيستمر كلما تقدم العمر بنور. مؤكداً أن لا شيء في العالم -حتى ذلك التاريخ- يمكنه أن يوقف هذا الضمور، أو يحد منه، حسبما تذكر لـ”يمن سايت” عائلة نور.
تنتمي نور إلى محافظة ذمار، مسقط رأس الشاعر اليمني الضرير عبدالله البردوني (1929-1999)، الموصوف بالرائي؛ لكن نور تفوقت على مواطنها البردوني في عدد الإعاقات، وتحديها؛ ففي مجتمع مازال يمانع تعليم الأنثى السليمة، ناهيك بالمعاقة، تمكنت نور من مواصلة تعليمها، واجتياز الثانوية، لكنها اصطدمت بإعاقة حكومية تمثلت برفض جامعة ذمار قبولها بدعوى عدم وجود قسم لذوي الإعاقات المزدوجة (صمم وبكم)، حسبما تقول الشابة غالب لـ”يمن سايت”.
نور الإرادة
أدت الحرب الأهلية التي يشهدها اليمن على خلفية انقلاب مسلح تنفذه منذ سبتمبر 2014، القوات العسكرية الموالية للنظام السابق، تحت غطاء ما يسمى مليشيا الحوثيين (حركة أنصار الله)، إلى التسبب في أسوأ وأكبر أزمة إنسانية يعرفها العالم، حسبما تقول الأمم المتحدة. يقع الجزء الأكبر من معاناة هذه الحرب على الفقراء والفئات الضعيفة، وخصوصاً الأطفال والنساء، وتتضاعف المعاناة عند المعاقين، خصوصاً الإناث.
ولئن توقفت عينا نور عن رؤية العالم، إلا أن نور إرادتها ما انفك يقودها نحو تحدي الصعوبات وتجاوزها.
“نور الوحيدة في ذمار التي اجترحت المعجزة. فقد أتقنت فن التريكو وصناعة الملابس الصوفية والجوارب والكوافي والشيلان، لجميع الأعمار، وبتصاميم مذهلة وألوان رائعة”، حسبما تقول لـ”يمن سايت”، نادية محمد ناصر العنسي، رئيسة “جمعية الإرادة لرعاية وتأهيل الصم”، وهي مؤسسة غير حكومية مقرها مدينة ذمار.
ولا توجد إحصاءات دقيقة بعدد ذوي الاحتياجات الخاصة في اليمن، إلا أن تقديرات تشير إلى أن المعاقين، بمن فيهم المصابون في الحرب الراهنة، ناهز عددهم الثلاثة ملايين، والجميع -على اختلاف إعاقاتهم- يشكون من غياب الرعاية الرسمية في البلد الأفقر والأقل استقراراً في المنطقة العربية، والذي يصنف أيضاً ضمن الدول الأكثر فساداً، حسب منظمة الشفافية الدولية.
تُعد نور أكبر ثلاثة إخوة داخل أسرتها يعانون الإعاقة ذاتها، وهما: صلاح وخيرية، لكن وخلافاً لخيرية التي استسلمت لإعاقتها، ولصلاح الذي يعالج حالياً في مشفى محلي مختص بعلاج صدمات الحرب إثر إصابته بنوبات اكتئاب، ظلت نور تحيك عزيمتها وتطرزها بإصرار المنتصر على إعاقته الذاتية والمجتمعية على السواء.
جدري السياسة

تبدو نور كأنها تحذو حذو معلمتها نادية العنسي، التي شقت طريقها منذ تسعينيات القرن العشرين، بعزيمة شبيهة.
في حديثها إلى “يمن سايت”، تتذكر العنسي ذلك اليوم من العام 1997، عندما أقنعها مدير “دار التنمية الفكرية”، لتأهيل الصم، محمد رزق الهمداني، بنزع النقاب عن وجهها، لتتمكن الطالبات في الدار من فهم الكلمات المتحركة عبر فمها، كان ذلك عندما كانت العنسي تعمل معلمة في ذلك المركز.
لم تكن العملية مجرد نزع نقاب، بل كانت أيضاً بمثابة الخطوة الأولى لبناء الثقة في الذات، واجتراح مسيرة النجاح. فها هي “جمعية الإرادة لرعاية وتأهيل الصم” التي أسستها العنسي نهاية عام 1998، صارت مؤسسة كبيرة تقدم خدمات التعليم الأساسي والثانوي، والترجمة، والتدريب والتأهيل الحرفي، وتمتلك مبنى روضة أطفال وحافلة.
تقول العنسي: “كان المجتمع غير متقبل وغير راضٍ عن الإفصاح بأن لديه معاقات سمعياً أو معاقين. وكان معظم الأهالي يعزون إعاقة أبنائهم إلى عين خبيثة، وكان الخجل الاجتماعي سمة في ذلك الوقت؛ لذا كان عليَّ الكفاح التوعوي، الذي استمر لسنين”.
في مكان غير بعيد من موقع نقطة ذمار الشهيرة والمتهمة بجباية التجار بشكل غير قانوني، يقع مبنى مؤسسة الإرادة، إلا أن الفارق بين الموقعين يبدو أكثر شساعة من القياس الظاهر، فبينما تنهب الأولى المواطنين وتفاقم فقرهم ومعاناتهم، تعمل الثانية على مد المساعدة وإضاءة طريق المحتاجين.
وتقدم الجمعية وفقا للعنسي، خدماتها لحوالي 817 شخصا من الجنسين منهم 247 شخصا في مجال التعليم. و“من كان يخجل بوجود فتاة صماء في منزله، أصبح يفتخر بها لأنها رفعت الرأس بإكمال دراستها الجامعية، وأصبحت معلمة ومدربة، وكذلك الأولاد”؛ تقول العنسي التي تبدو فخورة بما تقدمه لمجتمعها المحلي؛ في وقت تُتهم فيه الأحزاب اليمنية بتفريخ المليشيات لتقويض الاستقرار وتمزيق النسيج الاجتماعي.
في عهد الأئمة الزيديين الذين حكموا شمال اليمن لأكثر من ألف سنة، بدعوى انتسابهم إلى سلالة نبي الإسلام محمد، كان الجدري سبباً في إصابة الشاعر البردوني وغيره بالعمى، أما عمى نور وأبناء جيلها فيرجع إلى جدري السياسة والفساد اللذين مارستهما النخب الحاكمة. ما أدى إلى إخفاق اليمن في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، ومنها هدفا التعليم والصحة.
وبحسب منظمة الصحة العالمية، فإن ما لا يقل عن 2.2 مليار شخص، حول العالم، يعانون من ضعف البصر أو العمى، منهم مليار شخص على الأقل يعانون من ضعف في الرؤية كان من الممكن الوقاية منه أو لم تتم معالجته بعد.
وتقول عائلة نور إن الأطباء ظلوا يشخصون ضعف نظر طفلتهم بأنه عشى ليلي، وفي وقت متأخر فقط أدرك طبيب عيون يوصف بالماهر، أنها تعاني من ضمور وموت خلايا الشبكية.