“لستُ محدوداً إلا لأني لانهائي”
موريس بلانشو
“أي تجربة عذاب أو ألم يمكن للنبي محمد، هو دون سواه، أن يساعدنا على احتماله؟”. بهذا التساؤل أنهى فتحي المسكيني مقالته عن فكرة النبي في الفكر العربي المعاصر، وبهذا التساؤل يفتح الفكر بابه للنبي مانحاً العصر ومحمد أفقاً آخر.
إن مولد نبي أو مولد شاعر لهو حدث، كما السؤال هو حدث للفكر، فما بال مولد نبي أو شاعر في ثقافتنا؟ أليست لحظة ثقافتنا ثقافة حدث؟ أليس مولد النبي محمد في ثقافتنا حدثاً؟ بل أليس القرآن هو حدثاً في اللغة؟ النبي وقرآنه بعض من بعض مولد لغة جديدة.
لا يكتفي مولد نبي في ثقافتنا بتصديقه من قبل جماعة مؤمنة، بل بصداقته. والصداقة أصعب وأشق من الإيمان. لذلك النبي محمد هو نبي الصداقة.
يذكر النبي محمد دوماً وأصحابه: إنه صديق محب لسابقيه من الأنبياء: صديق موسى، يونس، إبراهيم… الخ.
القرآن أورد سوراً خاصة لهؤلاء الأصدقاء، وأفرد سورة خاصة بمحمد النبي. لكن أي صداقة يا ترى تجري بين الأنبياء؟ وأي صداقة تجمع النبي محمد وأصحابه؟
ما يجمع بين الأنبياء هو ما يتكرر في عمق وجودنا الإنساني بما هو الإنسان ألم محض. إن ما تكرره نصوص الأنبياء هو الفاجعة؛ أي “نبوءة الفاجعة”؛ والنبي كتجربة إنسانية فريدة ومريرة، لا يجعل من الفاجعة مطلقة وحسب، بل يجعل من الفاجعة، الممكن الوحيد لأن نحيا من خلالها. إننا بحسب بلانشو “منذورون للفاجعة… إنها ما وراء كل خير وشر”.
كل شيء ينهار أمام الفاجعة، ولا يمكن تفادي العالم من الانهيار، فالفاجعة لانهائية، إنها قدر لانهائي. لذلك النبي هو أفق الفاجعة وحدها المرئي، وفي نفس الوقت النبي مؤشر على لامرئية الفاجعة.
صحيح أن معظم قريش لم تؤمن بإله محمد، لكن هذا لم يمنع بعض رجالها من صداقة النبي محمد دون الإيمان بإلهه، فعمه أبو طالب لم يؤمن بإله محمد ، لكن ذلك لم يمنع صداقة هذا (صداقة القريب)، وكذلك صداقته -أي النبي- بالوليد بن المغيرة -وإن كانت صداقة حصيفة من بُعد- الذي وصف قرآن محمد: “يعلو ولا يعلى عليه”.
كذلك لم تستطع قريش منع إقامة صداقة ملازمة للنبي محمد “أصحاب النبي”، وهم أصدقاء للنبي من قريش ومن غير قريش، رجال ونساء (خديجة، عائشة، أم عمار بن ياسر لسن مؤمنات فقط، بل أصدقاء النبي): هنا صداقة “أصحاب النبي” منفتحة على هوية جديدة، وعلى اختلاف آخر لا معهود له؛ ذلك لأن هذه الصداقة ملازمة ومرهونة بالمستقبل، فالنبي هو صلة ما بالمستقبل، يجعل من صداقة المستقبل “الموجود الممكن-المستحيل”.
إننا مع النبي لسنا مدعوين لمغادرة موطن الذات، إلا لأن موطن الذات لم يعد قابلاً للسكن؛ حيث تصبح الحياة غير قابلة للحياة، حينها الانسحاب من العالم يجعلنا على خطى هروب الى أرض مجهولة.
إن مولد نبي يضعنا على خط هروب حيوي للأرض، هروب لامحدود ولانهائي للحياة. هنا، مع مولد نبي، نحصل على ولادة ثانية مرتبطة بمصير متعدد لحياتنا في العالم.
هذا المصير المتعدد لنبي الصداقة محمد، هو ما خلقته تجربة حياته، واهب إياها العالم؛ أي إمكانية حيوات متعددة: هذا هو عالم محمد النبي الذي يجعل من الفاجعة على صلة أعمق بالحياة. إنه قدرة على جعل الضعف الإنساني حدثاً جليلاً وحيوياً، وهذا الضعف هو مجرى للصداقة التي يقيمها النبي محمد مع من سبقه من الأنبياء. إنه يصادق معهم الفاجعة “صداقة الفاجعة” بما هي مرتبطة بالحياة.
وحده المتصوف لغة وكتابة من جعل من النبي محمد قدراً لا بد من مصادقته، إنه يمد الصداقة مع النبي محمد إلى أقصاها؛ فقد جعل المتصوف من النبي محمد -من الاسم- “محو ومد”؛ محو لعالم ومد لانهائي للوجود في العالم. إن المتصوف لا يسلك التاريخ إلا حافياً، فتاريخ النبي بالنسبة للمتصوف هو قفزة في الوجود.
إن مولد النبي محمد هو جمع للموجود لما هو مفرد الوجود. فذكر النبي محمد عند المتصوف هو ذكر للمنسي. والمنسي هو دوماً الوجود. لذلك لغة المتصوف هي مولد لغة، “لغة على تخوم اللغة” حيث تسكن الكتابة.