في اعتبارات في غير أوانها (محاسن التاريخ ومساوئه) يحرص “نيتشه” على التعاطي مع التاريخ باعتباره فناً للحياة ومن أجل الحياة، حتى وهو يبين أنواع التاريخ الثلاثة (الأثري والعادياتي والنقدي)؛ فهو يتعامل مع التاريخ كمعلم الفن (معلم الطبيعة). ومن هنا يتضح المقصد من تعلم التاريخ ومقصد دراسته؛ في ما يهبه للإنسانية من فن يُبْقيها مستمرة في الحياة.
وهنا يصبح ذكري تاريخ الذات اليمنية حفلة امتداد مع شموس التاريخ، والذي من خلاله يمكننا قراءة يوم السادس والعشرين من سبتمبر والرابع عشر من أكتوبر من كل عام، بوصفهما امتداداً حراً في التاريخ؛ بهما تؤكد الذات اليمنية الانتماء إلى الطبيعة؛ حيث تلتقي الذات (الأرض) مع نجومها.
التذكار نحو الشموس
في حركة التاريخ لسنا سوى نجوم في مجرة، أما حسنا التاريخي فهو حركة رقص متناغم مع “شمس” سبأ (الإله الشمس في اليمن القديم)، أي أن تاريخنا هو رقص أبدي؛ حيث حركة التاريخ امتداد داخل الأبدية.
في محراب إله “شمس” إلمقة ينشد أيلول أناشيد أبدية الحياة؛ حيث تأتي أناشيد أيوب طارش (أناشيد شمس أيلول) من مصدر طبيعتنا الحرة؛ ولكننا مظللون بنغم موسيقا مَرَح الإله المعيني “َوَدْ” المُحِب (الإله القمر إله الحب في اليمن القديم).
يُنْشِد الفنان أيوب طارش أناشيد قصة وجود وطن أيلول من خلال موسيقا خاصة بشعب اليمن بمرافقة آلة ربة النغم العذبة “دلفي اليمنية”، حيث لا يستورد الفنان موسيقا شعب آخر عند صنع قصة وجود شعبه الخاص، لأن قصة وجود أي شعب تحاك من أنغام موسيقاه الخاصة، وتحت إشراف ربات الإلهام الموسيقية.
يتعرف الشعب من خلال أناشيد أيلول للفنان أيوب طارش، على نفسه، حيث يعيد تكرار وجوده في كل مرة.
على سبيل المثال، في موسيقا نشيد “عودة السندباد” للفنان أيوب، وشعر علي بن علي صبرة، تعيد الموسيقا وجود وطن أيلول؛ في لحن نغم وعذب. حيث يُلَحَّن النشيد في طبقة لحن متوسطة الانسياب (ارتفاعاً وانخفاضاً)، فينساب اللحن مع حركة الأقدام داخل الحقل نحو الماء. وفي نفس الوقت يكون وجود الوطن مرئياً أمام العين، حين غداة الصباح..
“انثري الشهب حولنا يا سماءُ
واسكبي الضوء والندى يا ذكاءُ
عاد أيلول كالصباح جديداً
سحقت في طريقه الظلماءُ
يبعث الروح في الوجود ويسري
في دمانا كما يدب الشفاءُ…
…..
عاد أيلول غرة في جبين الدهر
تزهو به السنين الوضاءُ
…
وأطل التاريخ من شرفة الدهر
ابتهاجاً بنا ودوى دعاءُ”
وفي مقطع آخر لنشيد عودة السندباد، يظهر أيلول نبيلاً بكبرياء مجروحة؛ لكنه برغم ذلك يسمو فوق الجروح. إنه كبرياء ونبل التاريخ: “يا بلادي يا كبرياء جراح.. رضعت من نزيفها الكبرياءُ”.
الذكرى روح حزن أبدي
تذهب موسيقا ملحمة مأساة “يا مزهري الحزين” لأحمد بن أحمد قاسم -شعر لطفي أمان- إلى ملامسة روح كوكب حزين، حيث يخترق خيط ضوء الحزن بهجة وجوده المتجذر في حياة أبدية ثابتة كطبيعة الجبال..
“يا مزهري الحزين
من يرعش الحنين؟
إلى ملاعب الصبا.. وحبنا الدفين؟
….
الذكريات.. الذكريات
تعيدني في مركب الأحلام للحياة”.
وفجأة، وفي دقيقة، يفاجئ التاريخ الذات، ويغدو الحزن شعلة مضيئة لدرب وجود وطن حر:
“وبعد هذا كله
في صحوة الحقيقة
ينتفض الواقع في دقيقة”.
ويصبح حزن كوكب المأساة مع موسيقا نشيد محمد مرشد ناجي “هنا ردفان” -كلمات عبدالله هادي سبيت- بهجة نشيد حزن متلاحم وغاضب كبركان يفجر أرواح حرة..
“هنا ردفان من فمي كل ثائر
ومن روح القبائل والعشائر…
هنا اليمن السعيدة.. هنا الأحرار
هنا شمسان من أعماق لبي
هنا نفسي هنا أهلي وصحبي”
في موسيقا مأساة ملحمة “يا مزهري الحزين” وملحمة موسيقا “هنا ردفان” القصيرة، يكسف التاريخ فيهما كسوفاً ماكر. إنه المكر الأبدي للتاريخ.
الملالاة أيضاً نغم تعبير وكسوف حزين، إلا أنها في العمق ضوء في قلب الظلام. إنه ضوء قلب أرض معتمة فقط، لا تعبير عن انتظار.
كذلك الملالاة نغم آلام عذبة رقيقة ومملوءة بماء المحبة والشجن، وهو ما نجده في موسيقا مأساة “البالة” للفنان علي السمة، وكلمات مطهر الإرياني. إنها موسيقا النغم العابر لمأساة الاغتراب عن الذات؛ لكنها رغم ذلك متشوقة إلى الذات.
يظهر نغم الحزن في موسيقى “بالة علي السمة” في هيئة ظرف ساخر وضاحك. إنه نسيان مؤقت للتاريخ:
“البالة والليلة البالة
ما في فؤادي لطوفان الحزن من مزيد…
البالة قلبي بوادي (بنا) و(أبين) ووادي (زبيد)
ذكرت أخي كان تاجر أين ما جا فرش
جو عساكر الجن وشلوا ما في معيا من بقش…
البالة والليلة البالة”
إذا كان السادس والعشرون من سبتمبر والرابع عشر من أكتوبر؛ يومين نلتقي من خلالهما مع شموسنا الأبدية، فإن تذكر حدثهما هو ذكرى الامتداد للتاريخ المُضَايف للوجود.