يمن سايت ـ رياض نسيم حَمَّادي
تدور أحداث فيلم “10 أيام قبل الزفة” للمخرج اليمني عمرو جمال، أغسطس 2018، حول ميمون وخطيبته رشا، ومعاناتهما في البحث عن شقة للزواج فيها. هذه القصة ليست سوى عتبة لمشكلة أهم هي الحرب في عدن، وأثرها على الإنسان اليمني. شاهدنا هذا الأسلوب في أفلام سابقة، مثل فيلم “انفصال” لأصغر فرهدي، الذي يتناول في الظاهر مشكلة فردية؛ “انفصال سيمين ونادر”، لكن مضمون الفيلم يُظهر جوانب عديدة للانفصال: انفصال الأبناء عن الآباء والمواطن عن الوطن والفرد عن المجتمع، وانفصال طبقي بين الفقراء والأغنياء.
ويتخذ الفيلم الفلسطيني “بين الجنة والأرض” لنجوى نجار، من رغبة سلمى وتامر في الطلاق، عتبة للبحث عن الهوية، ومن خلال العودة إلى ماضي والد تامر سنكتشف جانباً من قصة النضال الفلسطيني، وكيف أن الأسرة تأتي قبل الوطن أحياناً. ويمكن للمتن أن يكون عتبة لموضوع ضمني هو تهميش الزوجة، كما شاهدنا ذلك في فيلم “قصة زواج”. وهكذا فقصة ميمون ورشا هامش لمتن أهم هي قصة عدن وأهلها مع الحروب، بداية من حرب 1986م ومروراً بحرب 1994 ثم حرب 2015 التي يشير الفيلم أكثر من مرة إلى أنها لم تنتهِ بعد.
عتبة ومرآة
كان ميمون قد بنى طابقاً في بيت والده الذي هو بيت جده، ليكون سكناً للزوجية، لكن الحرب أجبرت عمته على العودة إلى بيت أبيها، فوجد ميمون نفسه مضطراً للتخلي عن الشقة، وذهب للبحث عن شقة إيجار. وتمضي الأيام الـ10 قبل الزفة دون أمل في العثور على بيت مناسب.
ثم يأتي الحل في الأخير بسيطاً بعد تقديم التنازلات؛ فلا حاجة لقاعة عرس ولا لمعازيم ولا شقة كبيرة في وسط المدينة. يَقنع ميمون ورشا بالقليل، ويتم العرس وسط أجواء الفرح والرقص والغناء. يمكن أن نسأل: أين كان هذا الحل غائباً؟ ويكمن الجواب في مقدمة هذا المقال: قصة ميمون ورشا ليست سوى عتبة لمشكلة أهم هي مشكلة عدن.
فهل يمكن أن تحل مشكلة عدن -ومشكلة اليمن بشكل عام- بالبساطة نفسها التي حُلت بها مشكلة ميمون ورشا؟!
عسكرة الحياة العدنية
يؤكد الفيلم على لسان ميمون ورشا أن الحرب في عدن لم تنتهِ بعد، وأنها مستمرة بشكل آخر. ورغم أن الحرب انتهت قبل أكثر من 3 سنوات، إلا أننا سنرى صورتين لاستمرار الحرب في عدن: صورة المليشيات المتنازعة على شوارعها ومحلاتها التجارية.
مشهد واحد لتنازع رجال مسلحين على مخزن تجاري، يكشف عن غياب الدولة. والصورة الأخرى تتخذ طابعاً اجتماعياً، وتتمثل في محاربة الناس بعضهم البعض في لقمة العيش؛ كما فعل “فواز” الذي كان يعمل في محل الإنترنت الذي يملكه ميمون، ودفعه إلى الإفلاس من أجل الاستيلاء على المحل.
وناصر صاحب المحل رفع قضية في المحكمة بعد أن تراكمت ديون ميمون. وسنشاهد سليم الذي آوى ابن عمه، والد رشا، وأسرته؛ طمعاً في الزواج من رشا، مع أنه يعلم أنها مخطوبة منذ سنوات لميمون. يعاونه في مخططه هذا خالد أخو رشا، الذي يعمل مع سليم، ويطمع في ماله.
وتقية صاحبة الحَوش تستغل حاجة ميمون في استئجار مخزن يضع فيه عفشه، فترفع السعر وهي تردد عبارة: “هذا الحَوش حوش محترم”! كأنها تلمح من خلال هذه العبارة إلى أن بقية الأماكن غير محترمة! حتى أُم رشا تقف بدايةً في صف سليم، وتسعى لتزويجه ابنتها، مع علمها أنه متزوج وكبير في السن.
لكن الحاجة تدفعها وزوجها إلى ذلك بعد أن دمَّرت الحرب بيتهم، ووجدوا أنفسهم مشردين. وسنشاهد صوراً متفرقة للجشع متمثلاً في مالكي الشقق ومالك قاعة الأعراس.
في المقابل ثمة من يقفون في جانب الخير، لكنهم قلة: مشتاق، صديق ميمون، وأم مشتاق، ووليد أخو رشا، وصاحب سيارة النقل. وينتصر الحب في النهاية بإصرار رشا، ثم انضمام أمها إليها بعد أن أدركت أن فرار رشا من البيت يمكن أن يحرمها منها.
مفردة “الحرب” من أكثر المفردات التي ترددت في الفيلم: تقول رشا: “الحرب غيرت الناس كلها”، فترد عليها أمها: “إلا أنت”. تجيب رشا: “لولا الحرب لكنا قد خلَّفنا من زمان”.
وتخاطب صديقتها سمر: “الحرب بهدلت بنا يا سمر.. اتفرجي الحرب أيش سوَّت بنا”، تجيب سمر: “الحرب خلصت ومبترجعش مرة ثانية”.
ترد رشا: “الحرب عادها مستمرة بطريقة ثانية”، وتقصد بالطريقة الثانية المظاهر المسلحة في المدينة، وآثار الحرب التي مازالت مستمرة في ارتفاع الأسعار والغلاء والطمع والجشع. يؤكد ميمون على هذا الواقع وهو يخاطب القاضي قائلاً: “أنت داري إن الوضع قبل الحرب غير الآن”. فيجيب القاضي: “لا تتعذَّر بالحرب. الحرب خلصت قد لها أكثر من ثلاث سنين”. فيرد ميمون: “الحرب عادها مخلصتش يا قاضي، ونحن عايشين في أسوأ وضع”.
رجال ونساء عدن
ظهرت المرأة في صورة إيجابية، بينما ظهر الرجال سلبيين ومهزومين: والد رشا اختفى بعد حرب 1986م لمدة 4 سنوات، وعاد مهزوماً وضعيفاً، ثم أقعدته حرب 1994 في البيت مثلما فعلت بآلاف غيره. وميمون يتعلل بالظروف القاهرة للتخلي عن رشا، قبل أن يدفعه اختفاء رشا إلى التخلي عن سلبيته والتفكير بإيجابية. الوضع المتأزم في عدن يدفع الشباب إلى الحلول السهلة، مثل التفكير في الهجرة والعمل في الطبخ، كما يخطط وليد ومشتاق، أو الانضمام إلى المليشيات وبيع السلاح الشخصي (الكلاشينكوف) لسداد الديون، كما فعل مازن أخو ميمون. يقول مازن ملخصاً هذا الحل السهل، وهو يخاطب ميمون ومشتاق ووليد: “على الأقل العسكرة اللي جالسين تتلاكعوا (تتمسخروا) عليها راتبها مليح ومضمون، برتِّب حياتي وبصرِف على نفسي وبتزوج قريب، مبراعيش (لن أنتظر) زيك لما شعري قده أبيض وعدنا أدوِّر (أبحث عن) مكان أخبي (أضع) فيه العفش حقي”.
بينما رشا قوية وتعرف ماذا تريد، فقد تمكنت من ضبط ميزانية العرس وتكاليفه، وهو ما دعا مشتاق ووليد وميمون للثناء عليها، مقترحين أن تتولى وزارة الاقتصاد أو المالية لتحل مشاكل البلد. وما قالوه يقدم اقتراحاً بضرورة تمكين المرأة لقدرتها على اجتراح الحلول في أحلك الأوقات. وهكذا هو حال بقية النساء: أم ميمون تعمل في صناعة البخور في البيت، وأخته هبة تعمل في التطريز، حتى تقية الجشعة تكسب قوتها من إيجار حوش منزلها، وتبرر رفعها للإيجار بالغلاء الذي لم يعد يكفي طعاماً لقطة تحتضنها. وفي ما قالته تقية إشارة إلى شدة الغلاء الذي بلغته عدن.
عدن جَنة ومقبرة
تكشف عملية البحث عن شقة مستوى الغلاء الذي اجتاح عدن منذ الحرب الأخيرة، وتعرِض أحداث الفيلم مستوى الحالة الاقتصادية في عدن من خلال تمرير أسعار بعض السلع في الحوار.سنعرف سعر دبة البترول (6300 ريال) وسعر ربطة القات (20000 ريال) وأسعار إيجار الشقق، وحتى سعر حبة الخمير (20 ريالاً). هذا الواقع يدفع مشتاق إلى عرض فكرة الهجرة على أُمه فتقول له: “مبخرجش من عدن إلا لداخل قبري”، فيجيبها: “مَلِه عدن استوت أكبر قبر”.
ترد عليه: “حتى في هذا الوضع اللي يكبد القلب، لكن مكانها عدن في عيني جنة الدنيا”.
عدن بلسان الكبار “جنة الدنيا”، لكنها بلسان قسم من الشباب “مقبرة كبيرة”. هذه الجنة التي تتحدث عنها أُم مشتاق، ليست في البنية المادية أو جمال المظهر، وإنما تتمثل جنتها في أهلها وأحبابها وجيرانها، فلا تتخيل نفسها في بلد آخر، حتى لو كانت أجمل من عدن، فحتى “الحشوش” أو “القيل والقال” والثرثرة، لن يكون لها طعم هناك، على حد تعبيرها.
عن تلك المدينة التي تسكن الوجدان تدور الكاميرا حول وخلف ميمون وهو هائم في شوارعها، وفي الخلفية تدور أغنية: “انت يللي شوارعك كانت دافية.. يا بلد حنونة وقاسية.. ذاكرة ولا ناسية إني لك أقرب قريب.. ضُمِّينا حسِّسينا إني ابنك ومش غريب”.
عدن بالنسبة لأم مشتاق أهلها وناسها وجيرانها. فإذا كانت فكرة الفيلم تقوم على اعتبار أن الحرب قد غيَّرت هذه الجنة التي تتحدث عنها، فهذا يعني أن عدن قد تحولت إلى جحيم؛ فالناس لم يعودوا كما كانوا قبل الحرب. وبما أن الحرب لم تتوقف في عدن منذ عام 86 على الأقل، فإن جحيم عدن مستمر منذ ذلك التاريخ على الأقل، وأن المسؤول عن هذا الجحيم ليست الحرب الأخيرة فقط، وإنما كل الحروب التي سبقتها.
عدن التي كانت جنة وملاذاً للهاربين من الجحيم، كما تصورها الروايات الأدبية، حوَّلتها الحرب والمليشيات إلى جحيم. لم يفتش عمرو جمال عن صور يُظهر بها جمال عدن، فليس هذا هدفه.
يصور لنا عمرو جمال حواري عدن الشعبية، وسوق الطويلة بطعامه الحار والتمبل، والبطاطا مع البسباس الأحمر والمطبقية والسنبوسة. ليقول لنا إن هذه الأشياء البسيطة يمكن النظر إليها من جانبين: سلبي وإيجابي، وهي من منظور قصة الفيلم إيجابية حين تنسى رشا وميمون تعبهما في البحث عن شقة، فيذهبان للأكل في سوق الطويلة.
لم يبقَ من عدن سوى بضع عبارات إنشائية تسكن وجدان كبار السن، أما الواقع فجحيم يحاصرها بالعشوائيات والغلاء، حتى البحر لم يعد متنفساً طبيعياً، وصار محاصراً بالمباني.
نرى شكلين لهذا الحصار في لقطتين واسعتين بتقنية “زووم آوت”: الأولى من على جبل شمسان لبيوت عشوائية يسكنها أناس لا يعلم بمعاناتهم أحد، كما عبَّرت رشا. واللقطة الثانية تبدأ قريبة من وجوه رشا وميمون ومشتاق ووليد وهم يتحدثون عن حل لمشكلتهم أمام فُسحة صغيرة مسورة تطل على البحر، ثم تبتعد الكاميرا عنهم لتتسع اللقطة، فنرى البحر وهو محاصر بالسور والمباني. تكشف الكاميرا من خلال هاتين اللقطتين عن القبح، أكثر مما تكشف عن مواطن الجمال، ولعل هذا هو هدف المخرج.
نهايتان
تقمَّص كاتب الحوار، مازن رفعت، كل الشخصيات، ليقول من خلالها ما ينبغي أن يقال. نجح في أن يكون امرأة وطفلاً وشاباً وأُماً وأباً، فكتب حوارات ذكية، بلهجة عدنية تعكس طبيعة كل شخصية.
أما عن أداء الممثلين العفوي والمتقن فيحسب للاختيار المناسب للممثلين، كما يُحسب لتوجيه المخرج الذي نوَّع في اللقطات وزواياها، وهذا أضفى حيوية على المَشاهد.
لكن الصورة في الفيلم تلفزيونية، وتفتقر إلى العمق السينمائي، وإلى الكادر البصري الجميل، وهذا ما نجده في أفلام عربية كثيرة، ربما اعتقاداً بأن الصورة الجميلة ستقلل من أهمية القضية التي يتناولها الفيلم. مع ذلك يؤكد الفيلم في العموم على موهبة عمرو جمال، وعلى أنه سيكون اسماً قادماً في صناعة السينما اليمنية.
قصة الفيلم دراما تراجيدية من حيث المضمون، لكنها عولجت بأسلوب الكوميديا السوداء، ويمكن للمشاهد أن يشارك الممثلين سخريتهم من هذا الواقع المرير من خلال الحوار وكوميديا الموقف. ولعل هذا الأسلوب هو جزء من الحل الذي يقترحه صُنَّاع الفيلم بلسان حال يقول إن جزءاً من مواجهة المعاناة اليومية يكمن في السخرية.
حتى سوق الطويلة الشعبي حاول الفيلم أن يجعله عنصر جذب ليقول من خلاله بإمكانية العثور على الجميل في الأشياء البسيطة وفي العادات الحياتية التي أدمنها الإنسان اليمني. يتضح هذا الاقتراح الضمني أكثر في كلمات الأغنية التي يختتم بها الفيلم: “أيش يعني لو عليك ضاقت وما فُرِجتْ؟ طنِّش واضحك على همك وعِيش.
أيش يعني حرب بعدها حرب ولا هدَنت، ولو ما هدنت أيش يعني! طنِّش, اضحك على همك وعيش! ومهما الوقت طال بكرة الخير واجي…”.
أرى أن هذه الأغنية كان يمكن الاستغناء عنها؛ ففي كلماتها دعوة للاستسلام، أو للتسليم بما خلفته الحرب، بعد أن كان قد قدَّم تلميحات للحل تمثلت في عرض ميمون على أخيه مازن تسليم سلاحه والعودة إلى الدراسة، وفي عودة رشا إلى بيتهم المهدم إشارة إلى إعادة الإعمار.
كان يمكن إنهاء الفيلم عند هذا المشهد، وحذف الدقائق الـ10 التالية التي لم تضف شيئاً مهماً للقصة.
وبرغم أن النهاية سعيدة، إلا أن مطابقتها مع الواقع تجعل من هذا الأخير مفتوحاً على كافة الاحتمالات.
ورغم أن الحياة في الفيلم هي نموذج مصغر للحياة في عدن اليوم، إلا أن الواقع ليس فيلماً حتى يمكن التحكم فيه بقرار اجتماعي دون أن يأخذ الحل في الحسبان العنصر السياسي الذي لا يظهر في واجهة الفيلم، لكنه في الحقيقة المحرك الرئيسي.
ينتهي الفيلم بالزواج “غصباً عن الدنيا كلها”، كما قال ميمون، ويبقى السؤال: كيف يمكن إنهاء الحرب غصباً عن الدنيا كلها؟!