7 فبراير الماضي، اليوم الذي كان مقرراً أن يسافر فيه الطالب في جامعة صنعاء فيصل المخلافي (23 عاماً)، إلى قريته “مخلاف أسفل” في محافظة تعز، لزيارة والدته، لكنه وبدلاً من السفر إلى القرية، اتجه عند الساعة الثانية من فجر ذلك اليوم، إلى كلية الهندسة. وفي حوالي الساعة السابعة صباحاً شُوهد المخلافي جثة مشنوقة على شجرة في ساحة كلية الهندسة، حسبما يؤكد لـ”يمن سايت” مقربون من الطالب.
اختيار المخلافي ساحة كلية الهندسة لإعلان انتحاره، لم يكن اعتباطياً، بل انطوى على دلالة عن دور هذه الكلية في تطور أزمته النفسية التي جعلته يقرر أخيراً مغادرة “العالم الحقير” و”البقاء مع الله والملائكة”، حسب تدوينة له نشرها بتاريخ 29 يوليو 2021، عبر صفحته في “فيسبوك”.
حتى تاريخ تلك التدوينة ظل المخلافي على اعتقاده بأن “الانتحار حرام”، وفق ما تظهر تدويناته، بيد أن تصاعد الصراع النفسي الذي عاناه على مدى 3 سنوات، حسب مصدر مقرب من الضحية، جعل الرغبة في الخلاص تتغلب على أفكار التحريم، وتتجاوزها.
شجرة الفرجة
كان بإمكان المخلافي أن ينهي حياته بطريقة سهلة وتقليدية، لكنه اختار الذهاب إلى كلية الهندسة لشنق نفسه على شجرة من أشجار ساحتها. وكأن الضحية باختياره لتلك الطريقة التراجيدية، أراد إدانة المكان (كلية الهندسة) التي كانت واحداً من أسباب معاناته.
يقول مصدر مقرب من الضحية، لـ”يمن سايت” إن قريبه فيصل كان يرغب بدراسة الطب في جامعة صنعاء، لكنه لم يوفق بعد محاولات ثلاث، ما اضطره إلى الالتحاق بكلية الهندسة في العام الدراسي 2020/2021، إلا أنه فشل في سنته الأولى، فقرر الالتحاق بكلية الإعلام.
تذكر المصادر التي تحدث إليها معد التقرير، أن زملاء فيصل في كلية الهندسة كانوا ينظرون إليه نظرات إشفاق؛ نظراً للاضطراب النفسي الذي كان ظاهراً عليه. مرجحين أن تلك النظرات التي شعر بها فيصل، ثم رسوبه، دفعاه إلى الانتحار.
إلا أن اختصاصي الإرشاد النفسي دكتور صادق الشميري، قال لـ”يمن سايت”: إن حكاية رسوب فيصل ربما تكون القشة التي قصمت ظهر البعير، لكنها ليست كل السبب في الانتحار، فلو كان رسوب أي طالب في الاختبار أو عدم قبوله بكلية معينة، يؤدي إلى انتحار، لكان هناك انتحار بالآلاف بين الطلاب.
في تحليله لتدوينات المخلافي المنشورة على “فيسبوك”، يخلص الشميري إلى وجود “نظرة سوداوية للحياة”، ما يعني أن كاتب تلك التدوينات يعاني من وطأة اكتئاب شديد، أو ما يسمى في علم النفس “الثالوث المعرفي”، وهو تفسير سلبي للماضي والحاضر، وانعدام التفاؤل بالمستقبل، حسب قول الشميري. وتشير تقديرات إلى أن 5% من البالغين في العالم يعانون من الاكتئاب.
رواية محروقة
وبحسب صديق للضحية، فإن فيصل سبق أن افتتح قبل 4 سنوات مشروعاً تجارياً خاصاً به، عبارة عن محل إكسسوارات في شارع هائل في صنعاء، إلا أن المشروع تعرض للإفلاس بعد عام ونصف، بسبب ركود السوق.
وعُرف عن فيصل شغفه بقراءة الكتب والاطلاع، ونفوره من المجتمع التقليدي الذي يعيش فيه، ما جعله يميل إلى الانطواء، كما له محاولة في كتابة رواية كان على وشك الانتهاء منها، إلا أنه أضرم فيها النيران قبل انتحاره بعدة أسابيع، حسبما تذكر مصادر مقربة.
وتعددت الروايات حول قضية انتحار المخلافي، وذهب البعض إلى اتهام سلطة الأمر الواقع في صنعاء بقتله، إلا أن المصدر المقرب أكد أن كاميرات المراقبة في بوابة جامعة صنعاء، رصدت لحظة دخول فيصل إلى الجامعة وحيداً، وأن البحث الجنائي قدم لأسرته تقريراً كاملاً يثبت عدم وجود أية جريمة.
يقول قريب الضحية : “تقرير الطبيب الشرعي أظهر عدم وجود ما يدل على مقاومة أو آثار لعملية اعتداء تعرض لها فيصل الذي سبق أن حاول الانتحار عدة مرات، إلا أن أسرته كانت تراقب تحركاته، وتمنعه من الإقدام على الانتحار طوال فترة معاناته المرضية، كما عرضته على أطباء.
ويقر الطبيب النفساني عبدالله عبدالوهاب الشرعبي، أن الضحية فيصل المخلافي كان أحد مرضاه الذين ترددوا عليه للعلاج، إلا أن الشرعبي رفض إعطاء معد هذا التقرير أية معلومات حول حالة المخلافي النفسية، والأسباب التي يرجح أن تكون وراء انتحاره.
بيئة ضاغطة
وتزايدت حالات الانتحار في اليمن، خصوصاً في ظل تردي الأوضاع المعيشية والاقتصادية. ولم يكن فيصل الأول أو الاخير في الإقدام على الانتحار، ففي مطلع أبريل 2021، أقدم معلم يدعى محمد عتيق (40 عاماً)، من محافظة ذمار، على شنق نفسه بواسطة حبل، جراء ضغوط الأوضاع المعيشية الصعبة التي يعيشها المعلمون، واستمرار الحرب وتوقف رواتبهم منذ أكثر من 5 سنوات، والغلاء المعيشي المتصاعد.
ويحدث الانتحار نتيجة ضغوط نفسية شديدة، بعضها قد تعود للظروف المادية التي يعيشها الشخص، والبعض إلى الظروف الأسرية، وأخرى لظروف اجتماعية، أو قد تكون بسبب العمل أو الدراسة، حسبما يقول الشميري.
في 2016 احتل اليمن المرتبة الثالثة عربياً في معدل حالات الانتحار بعدد 2335 حالة، وفق تقرير لمنظمة الصحة العالمية. وخلال عام 2020 سُجلت 340 حالة انتحار في 10 مدن واقعة تحت سيطرة حكومة صنعاء غير المعترف بها دولياً، تصدرتها العاصمة صنعاء، وفق ما نقلته صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية، عما سمتها مصادر إحصائية تابعة لسلطات الانقلاب.
وبحسب الشميري، فإن الضغوط تمثل مزيجاً، وتؤدي بالفرد إلى حالة اكتئاب شديد تجعله ينظر نظرة سوداوية لماضيه وحاضره ومستقبله، وعندما لا يجد ذرة أمل بغد أفضل في ظل واقع تعيس، فإنه يلجأ غالباً إلى الطريقة السريعة أو المشهورة في الانتحار، والتي يتم تداولها عبر الإعلام أو من خلال الأفلام والمسلسلات.
يقول المخلافي في تغريدة له: “يكفي أني فعلت ما لم يفعله أي إنسان آخر، تحملت، صبرت، سعيت، بلغت، بكيت وحيداً والله يربت على كتفي، ضحكت وحيداً والله يصفق لي، يكفي أني ورغم كل شيء ما وهنت”.
إلا أن صمود المخلافي لم يدم طويلاً، ففي تلك الليلة الباردة من ليالي صنعاء الباردة، سار الطالب المخلافي إلى ساحة كليته السابقة، ليثبت لزملائه أنه ليس بذلك الضعف الذي عبرت عنه نظراتهم إليه، وأنه قادر على اتخاذ قرار إنهاء حياته.