يوم 8 من الشهر الجاري، وبينما كان المبعوث الأممي الجديد إلى اليمن، هانس غروندبرغ، يلتقي قيادات في السلطة المحلية وممثلين عن الكيانات السياسية في مدينة تعز(256كم جنوبي صنعاء)، في زيارة هي الأولى لمبعوث أممي إلى المدينة المحاصرةمنذ سبع سنين من ثلاث جهات، في تلك الاثناء كان أحمد القدسي يفاوض موظفي مؤسسة إنسانية محلية يقع مقرها في شارع جمال من المدينة نفسها، محاولا إقناعهم باعتماده ضمن قوائم المستفيدين من المساعدات الإنسانية.
تتمثل مشكلة القدسي، كما يشرحها ل”يمن سايت”، في اشتراط موظفي المؤسسة أن تكون لديه عائلة في المدينة كشرط لقيده ضمن المستفيدين، وهذا طلب صعب لأن إحضار العائلة من القرية يتطلب استئجار منزل؛ وهو ما لا يقدر عليه القدسي بسبب فقدانه مصدر دخله، حسب قوله.
القدسي واحد من آلاف الموظفين الحكوميين، الذين نزحوا خلال السنوات الماضية من المناطق التي تسيطر عليها حكومة صنعاء غير المعترف بها دوليا، إلى مناطق سيطرة الحكومة اليمنية؛ على أمل أن يحصلوا على رواتبهم المتوقفة منذ آب /أغسطس 2016، إلا أن غالبيتهم عانوا الأمرين: مرارة النزوح، ومرارة فقدان الراتب.
خلافا لأمراء الحرب المنفلتين من أية قواعد أخلاقية، ترفع الأمم المتحدة شعار “السلام والكرامة والمساواة على كوكب ينعم بالصحة”، وتشدد قوانين العمل في المؤسسات الأممية على التزام النزاهة والشفافية، ومنع التدليس، إلا أن ممارسات موظفين أممين في اليمن تشابهت مع أمراء الحرب حسب ما يرى يمنيون، بعد 7 سنوات من الصراع.
يعد السويدي غروندبرغ، رابع مبعوث أممي إلى اليمن، بعد البريطاني مارتن غريفيثس، والموريتاني إسماعيل ولد الشيخ أحمد، والبريطاني من أصل مغربي جمال بن عمر، توارثوا ملف الأزمة اليمنية من دون أن يتركوا أثرا إيجابيا على المسارين السياسي والإنساني، بل وفاقموا معاناة السكان المدنيين، وفق مايوثق هذا التقرير.
تدليس مزمن
يستيقظ الموجه التربوي عبد القوي غالب، حوالي الساعة الخامسة فجرا، ليس استعدادا للذهاب إلى المدرسة، كما اعتاد خلال سنوات سابقة، بل ليلحق برفاقه عمال البناء الذين يعمل وإياهم بالأجر اليومي لدى مقاول محلي في حي حدة جنوبي العاصمة صنعاء.
على مدى أكثر من عقد، عمل غالب معلما في مدرسة حكومية، ثم رقي إلى موجه تربوي. ومع توقف الرواتب عمل غالب في مدرسة خاصة مقابل 30 ألف ريال ( 50دولارا) شهرياً، إلا أن إدارة المدرسة استغنت أخيرا عن خدماته بسبب مصاعب مالية تواجهها؛ ما اضطره إلى العمل في مجال البناء ” فهذا خيار أفضل من التسول”، يقول غالب ل”يمن سايت”.
في كانون الأول /ديسمبر 2018، استبشر غالب ومعه ملايين اليمنيين، باتفاق ستوكهولم خصوصا فقرته المتعلقة بإيداع إيرادات موانئ الحديدة في حساب خاص، تحت إشراف الأمم المتحدة لدفع رواتب موظفي الخدمة المدنية”. والفقرة مستوحاة من إحاطة قدمها المبعوث السابق إسماعيل ولد الشيخ إلى مجلس الأمن في تموز/يوليو2017 ، دعت إلى وضع “برنامج عمل لجباية الضرائب والعائدات واستعمالها لدفع الرواتب وتأمين الخدمات الأساسية، بدلا من تمويل الحرب”.
لكن اتفاق ستوكهولم الذي جاء إثر ضغوط مارستها الأمم المتحدة والدول الكبرى لمنع عملية تحرير الحديدة، تحول إلى وبال على المدنيين.
وعلاوة على تقطيع أوصال الحديدة، اكتفى المبعوث الأممي السابق مارتن غريفيثس بتطبيق الجانب المتعلق بتوظيف بعثة أممية خاصة بالحديدة، وتسليم موانيء الحديدة الثلاث إلى خفر السواحل -قوات أشرفت على تدريبها بعد أحداث 11 سبتمبر الولايات المتحدة وفرنسا، بينما بقيت البنود الأخرى من اتفاق الحديدة ذات الصلة بمعاناة المواطنين، مثل صرف الرواتب، و تفاهمات حول تعز دون تنفيذ.
“خرجنا نطالب بالكماليات ففقدنا الكماليات والاساسيات “، يقول أحمد حسن الزريقي، مشيرا إلى الكارثة التي حلت باليمنيين منذ حولت الأحزاب اليمنية، والقوى الإقليمية والدولية، مطالب شباب ثورة 11شباط /فبراير 2011 السلمية إلى حرب مزورة هدفت إلى إعادة هيكلة النظام القديم بما يتواءم مع الحرب العالمية على الإرهاب، والتطبيع مع إسرائيل.
كان الزريقي في السادسة عشرة من عمره، عندما شارك مع شبان تعز احتجاجات عام 2011، بقي الزريقي يدفع 100 ريال أجرة انتقال إلى حي الحوبان شرق المدينة. ومع الحصار شبه الكلي الذي تضربه منذ 2015 القوات العاملة تحت غطاء الحوثيين؛ صار الزريقي يدفع 8000 ريال(حوالي 5دولار) لنفس المشوار. وبدلا من 5دقائق، بات الوصول إلى نفس الحي يأخذ حوالي 4 ساعات عبر طريق جبلية وعرة.
تعد مدينة تعز ثالث مركز حضري على مستوى اليمن. ومع الحصار صارت تعتمد على طريق وحيدة من الدرجة الثالثة للوصول إلى عدن. وإلى جانب وعورتها، صارت الطريق المعروفة باسم “هيجة العبد” مصدر خطر على المسافرين، خصوصا في مديرية طور الباحة التي قتل فيها خلال الشهور الماضية ما لا يقل عن مسافرين اثنين. في وقت يستمر التحالف العربي في إغلاق المطارات اليمنية، باستثناء مطاري عدن وسيئون.
في نيسان/ أبريل الماضي وجهت مجموعة حزبية في تعز رسالة إلى المبعوث الأممي مارتن غريفيثس، انتقدت فيها تحيز الأمم المتحدة وصمتها على الحصار المضروب على تعز. وإضافة إلى قنص المشاة و زرع الألغام، وقصف الأعيان المدنية؛ تشمل التهم الموجهة إلى القوات العاملة تحت غطاء الحوثيين، منع تشغيل آبار مؤسسة المياه الواقعة في مناطق سيطرتها، وفق مايؤكد ل”يمن سايت” وزير المياه الأسبق عبده رزاز..
عبثية سوداء
في عام 2011 حلت أحزاب المعارضة (اللقاء المشترك) محل شبان الساحات، ووقعت مع الحزب الحاكم اتفاقا لنقل السلطة وتقاسمت معه الحكومة. وعلى الرغم من علم المبعوث الأممي الأسبق جمال بن عمر بامتلاك الأحزاب أجنحة عسكرية ومليشيات، إلا أنه تعامل بدءا من أيلول /سبتمبر 2014، مع القوات المنضوية تحت غطاء الحوثيين باعتبارها طرفا منفصلا عن الأحزاب.
ومع التدخل العسكري في اليمن بقيادة السعودية والامارات ربيع 2015، توارت الأحزاب عن مشهد المفاوضات الأممية، لكنها بقيت تشارك في حكومتي صنعاء وعدن، ولم تعد إلى واجهة المفاوضات إلا مطلع الشهر الجاري في مشاورات عقدها المبعوث غروندبرغ في العاصمة الفنلندية.
بعد 7سنوات من حرب اليمن، التي وصفها وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي، بالعبثية وقتل فيها حوالى ربع مليون شخص ، اكتشف سفير المملكة المتحدة لدى اليمن، ريتشارد أوبنهايم،” وجود فجوة بين مضمون قرار مجلس الأمن 2216 بشأن اليمن، الصادر في العام 2015، والوضع على الأرض”، مؤكدا في حوار مع صحيفة”الشرق الأوسط” نشر في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي،الحاجة إلى قرار بديل يصدره مجلس الامن .
ماقاله أوبنهايم اقترحه المبعوث الأممي الأسبق إلى اليمن جمال بن عمر، في مقال نشره مطلع العام الجاري، إلا أن السعودية و دول خليجية أخرى لم تتخذ أي إجراء إزاء بن عمر والسفير البريطاني، على غرار ما فعلت مع لبنان، رغم أن الوقائع تؤيد صحة ماقاله قرداحي.
وعلى سبيل المثال، عمد التحالف العربي إلى تحويل حرب اليمن إلى حرب على الإرهاب، وليس ضد الانقلابيين الحوثيين، كما زعم عند إطلاق عاصفة الحزم.
وعلاوة على قصف قاعة عزاء في صنعاء؛ ما أدى إلى مقتل قيادات عسكرية كانت على تنسيق مع الرئيس هادي للإطاحة بالحوثيين، حسب مايقول ل”يمن سايت” المدير السابق لدائرة التوجيه المعنوي بوزارة الدفاع اليمنية اللواء محسن خصروف ، أمر التحالف بعد مقتل الرئيس السابق علي عبد الله صالح ( نهاية 2017 )، قوات الحكومة الشرعية التي كانت على مشارف صنعاء، بالتراجع نحو مأرب، وهددها بالقصف. وعندما حاولت قوات حكومية استرداد عدن من قبضة المجلس الانتقالي الجنوبي قصفتها طائرات التحالف ووصمتها بالإرهابية.
مثلما تدخل التحالف في 2018 لمنع توغل القوات المشتركة في الحديدة، وهددها بالقصف؛ كذلك مارس التهديد نفسه في 12 نوفمبر الجاري في حال لم تنسحب من مواقعها في الحديدة، حسب ماقال عسكريون تابعون لألوية العمالقة في مقاطع فيديو، وتسجيلات صوتية مسربة.
وعلى الرغم من أن حالة اللا حرب واللا سلم، أضرت كثيرا بالمدنيين، حسب ما يؤكد ل”يمن سايت ” وزير الخارجية الأسبق خالد اليماني، إلا أن المسئولين الأمميين عمدوا إلى تكريس هذه الحالة، ولم يفصحوا عن حقيقة الصراع وأهدافه، باستثناء إشارة طفيفة لفريق الخبراء البارزين التابع لمجلس حقوق الانسان، تضمنها تقريره الصادر في أيلول /سبتمبر2019 ، شككت في التنميط الشائع للصراع اليمني وحصره في ثنائية شرعي وانقلابي.
وكما تسبب اتفاق ستوكهولم في ارتفاع عدد الضحايا المدنيين، وفق تقارير منظمات إغاثية، كذلك أسفر انسحاب ما تسمى بالقوات المشتركة من الحديدة مطلع الشهر الجاري عن عمليات انتقام طالت مدنيين وبلغ عدد النازحين خلال يومين فقط اكثر من 6000 نازح، حسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الانسانية في اليمن.
وعلى الرغم من مضي 7سنوات على إنشاء لجنة العقوبات الخاصة باليمن، إلا أن العقوبات التي فرضها مجلس الأمن، اقتصرت على أفراد ثانويين، ولم تشمل الكيانات الحزبية المنتجة للمليشيات وقياداتها السياسية.
وقالت ل “يمن سايت ” 3مصادر حضرت لقاءات المبعوث الجديد، أن غروندبرغ اكتفى بالاستماع الى وجهات النظر ولم يطرح أية أفكار حول الكيفية التي سيتعامل بها مع جذور الأزمة اليمنية المصنفة كأسوأ أزمة إنسانية في العالم. كما اقتصرت لقاءات غروندبرغ على أطراف الصراع وأذرعها المدنية ولم يلتق ضحايا أو يزور مواقع النازحين المقدر عددهم 4ملايين نازح.