اضطرت الطالبة هُدى باجرش، إلى التخلي عن رغبتها في الالتحاق بكلية الهندسة، لتلتحق بدلاً عن ذلك بكُليَّة اللُغات؛ ليس حباً منها للغات، ولا لافتقارها للمعدل، بل لوقوع كلية اللغات ضمن مديرية خور مكسر، القريبة من سكن هدى القاطنة في المعلا؛ بينما تقع كلية الهندسة في مديرية الشعب، والتي يتطلب الوصول إليها دفع ما بين 1000 و2500 ريال يومياً أجرة مواصلات، بمتوسط قدره 44 ألف ريال لكل طالب يواظب مدة 22 يوماً في الشهر.
وتسببت زيادة سعر البنزين في عدن إلى 1.25 دولاراً، للتر الواحد، في ارتفاع أجور مواصلات النقل والسلع والخدمات، في وقت تشهد قيمة الرواتب انخفاضاً جراء الانهيار الاقتصادي وانحدار قيمة الريال اليمني أمام العملات الأجنبية.
ونتيجة لهذه الأسباب، إضافة إلى تشتت كليات جامعة عدن، وتوزعها بين مديريات متباعدة، فقد اضطُر العشرات من خريجي الثانوية العامة إلى التخلي عن التخصصات التي كانوا يحلمون بدراستها، واختيار تخصصات توفرها الكليات الواقعة بالقرب من مناطق سكنهم.
تقول هدى باجرش لـ“يمن سايت”: “حلمت لسنوات أن أُصبح مُهندسة معمارية، وبعد تفوقي في الثانوية وحصولي على معدل 93%، أجبرتني الظروف أن أتخلى عن هذا الحلم، وأتقبل الواقع رغم مرارته”. مشيرة إلى أنها ليست الوحيدة، فشقيقتها رغد هي الأخرى اضطرت إلى تغيير تخصصها.
الفقر للجميع
يعمل والد هدى ورغد، علي باجرش، مدرساً في جامعة عدن، إلا أن راتبه بالكاد يكفي لمتطلبات العيش الضرورية؛ في بلد أنهكه الغلاء وتدهور العملة الوطنية أكثر مما أنهكه القتال المستمر منذ ثماني سنوات؛ بيد أن وضع باجرش يبقى أقل سوءاً من وضع حوالي مليون موظف، بينهم أساتذة جامعات، يعملون في مناطق سيطرة ما تسمى مليشيا الحوثيين (حركة أنصار الله)، التي تدفع نصف مرتب كل ثلاثة أشهر، ما يعادل راتبين في السنة.
يقول علي باجرش لـ“يمن سايت”: “أنا أُستاذ مُساعد في الجامعة، كنت أطمح لتعليم أبنائي تعليماً ممتازاً، بحسب رغباتهم، ولم يخطر على بالي أن أعجز يوماً عن تعليمهم”، مشيراً إلى أن قيمة الراتب الشهري للمدرس الجامعي هبطت من 1200 دولار عام 2014 إلى 200 دولار حالياً، “وهذا مبلغ زهيد لا يفي بمتطلبات معيشة أسرة صغيرة، ولا يغطي نفقات المواصلات”.
نظرياً يصنف أساتذة الجامعات، أمثال علي باجرش، ضمن الطبقة الوسطى، إلا أن هذه الطبقة تآكلت على مدى العقدين الماضيين، وصارت قاب قوسين أو أدنى من الطبقة الفقيرة.
وبحسب دراسة نشرها “المركز اليمني لدراسات الدخل”، عن “الطبقة الوسطى في اليمن خلال الفترة 2010ـ 2015م”، فقد انخفض حجم الطبقة المتوسطة وفقاً لمعيار الإنفاق، من 61.7% عام 2001م إلى 54,7% عام 2010م، فيما قدرت مطلع العام 2015م بـ12%.
وتصنف الأمم المتحدة اليمن كثاني أشد الدول انخفاضاً في التنمية الاقتصادية، وثاني دولة من حيث عدم تساوي الدخل مقارنة بعام 2014. والمفارقة أن أساتذة جامعيين كثراً برروا لانقلاب 21 سبتمبر 2014، ونفخوا في بوق دعايته. وبرغم انسداد الآفاق، إلا أن هناك من لايزال يحرص على التعليم، ومن هؤلاء عمر عبدالعزيز الذي اضطر إلى الالتحاق بمعهد العلوم الإدارية (حكومي) ليختصر سنواته الدراسية إلى سنتين.
يقول عبدالعزيز لـ“يمن سايت” إنه اختار المعهد؛ لقربه من المنطقة التي يسكن فيها في خور مكسر، ولأن مدة الدراسة في المعهد عامان بدلاً من أربع سنوات في الجامعة. وفي أوقات ما بعد الدراسة يعمل عمر في مطعم لمساعدة أسرته.
وشكل الصراع على النفط سبباً في تفجر حرب صيف 1994، كما مثل البنزين الذريعة التي استخدمتها قوى سياسية وعسكرية تنشط تحت غطاء مسمى الحوثيين، لإشعال حرب جديدة هي الأسوأ في تاريخ البلد الأفقر والأقل استقراراً في المنطقة العربية.
فعقب إقرار الحكومة اليمنية، نهاية يوليو 2014، زيادة في أسعار الوقود، ما أدى إلى ارتفاع سعر صفيحة البنزين (20 ليتراً) من 2500 إلى أربعة آلاف ريال، صعدت القوى النشطة تحت غطاء الحوثيين من احتجاجاتها وزحفها نحو صنعاء.
وعلى الرغم من تراجع الحكومة حينها عن قرار زيادة أسعار الوقود، الذي جاء أصلاً بتوصية من البنك الدولي، إلا أن القوى الانقلابية واصلت زحفها بإسقاط العاصمة، يوم 21 سبتمبر 2014، والسيطرة على مؤسسات الدولة، ووضع رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء تحت الإقامة الجبرية، ما فتح الباب أمام تدخل عسكري خارجي بتفويض أممي.
ووفقاً للأمم المتحدة، تسببت الحرب التي يشهدها اليمن على خلفية انقلاب 21 سبتمبر 2014، في وفاة أكثر من ربع مليون شخص، وتراجع التنمية لعقدين.
ولئن طالت الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة أبناء الطبقة الوسطى، وأعاقت اختيارهم لتخصصاتهم، فقد أحالت حياة الطبقات الفقيرة إلى جحيم. وتشير تقديرات إلى وجود نحو مليوني طفل خارج المدرسة، بسبب الفقر والنزاع ونقص فرص الحصول على التعليم. وبعض المتسربين من التعليم العام والجامعي يلتحقون بجبهات القتال لتوفير الطعام لذويهم، حسب تقارير.
وتقول الطالبة أروى باوزير إنها حصلت على معدل 98% في الثانوية العامة، إلا أن معدلها هذا لم يشفع لها بالتقدم لدراسة البرمجة في كُليَّة الهندسة بجامعة عدن؛ لعدم مقدرة أُسرتها على تحمل نفقات مواصلات النقل من لحج، إلى عدن، ومصاريف إضافية تحتاجها الطالبة.
أما أنور ناصر ، الطالب في سنة أولى هندسة، فقد حالفه الحظ بتعاون سائق باص ينقل موظفين، صباحً كل يوم، من التواهي إلى مدينة الشعب، بالقرب من كُليَّة الهندسة، والعودة بعد انتهاء الدوام، حيث تكفل سائق الباص بنقل أنور مجاناً، ما مكَّنه من مواصلة الدراسة بعد أن كاد يوقف قيده في الكليَّة؛ بسبب تكلفة المواصلات.
ترقيع لا غير
وفي ظل استشراء الأزمة العامة، واستمرار اللامبالاة الرسمية، أطلق أفراد مبادرات مجتمعية بهدف التخفيف من معاناة الطالبات والطلاب. ومن هؤلاء موظف ومالك باص يدعى فهمي، تكفل بنقل طالبات من البريقة إلى خور مكسر؛ لدراسة الطب، بسعر مقبول لكل طالبة، لا يتعدى 1000 ريال في اليوم، ذهاباً وإياباً. وهي مبادرة ساعدت الطالبات على مواصلة دراستهن، وخففت عنهن ارتفاع أجرة المواصلات.
يقول فهمي لـ“يمن سايت”: “هُناك طُلاب أُجبروا على تغيير رغباتهم في تخصُّصات الجامعة، بحسب قرب الكُليَّة؛ وذلك لعدم قدرتهم على دفع أجور النقل، وهذا الأمر دفعني للقيام بهذه المبادرة”، داعياً “السائقين، وملاك الحافلات إلى التعاون مع الطُلاب”.
وفي مدينة تعز، أطلق صحفي شاب، في نوفمبر الماضي، حملة مجتمعية بعنوان “على_طريقك”، هدفت إلى حض ملاك السيارات على توصيل الطلاب من وإلى كليات جامعة تعز، والمدارس مجاناً.
وبحسب فهمي وآخرين، فإن الأُسر التي لديها طالبان أو ثلاثة مؤهلون لدخول الجامعة، تكتفي بتسجيل طالب واحد فقط، بينما الآخر يتوقف عن الدراسة، ويذهب للبحث عن عمل لمساعدة الأُسرة على مواجهة أعباء الحياة.وكانت السلطة المحليَّة في مدينة عدن أعلنت، في وقت سابق، عن تخصيص باصات، تلقتها كمساعدة من دولة الإمارات؛ لنقل الطلاب، إلا أن المشروع توقف لفترة، ثم أعيد تنشيطه من قبل السلطة المحلية، بداية العام المنصرم؛ لنقل الطلاب بين الكُليَّات والمناطق التي يسكن فيها الطلاب، بيد أن المشروع لم يحقق النجاح المرجو؛ بسبب قلة عدد الباصات، مقابل كثرة أعداد الطلاب، وتهالك هذه الباصات وإهمالها من قبل الجهات المعنية. ونفس المصير تقريباً حصل لمشروع مماثل في صنعاء.