يُعزى لحرب “اليمن السعيد”، أنها كشفت الوجه الحقيقي لكثير من الناس، وأزالت الأقنعة والمساحيق والرتوش. فهذا الرجل درس وتعلّم وحصل على منحة دراسية في الخارج، ونال درجة الدكتوراه، وعندما عاد إلى أرض الوطن، صار يدافع عن الجهل والتخلف.
وذاك الشاب، المثقف والشاعر والكاتب، كان يتحدث دائماً، ويكتب عن التقدم والتطور والانفتاح.. واليوم صار يتغزل بالعبودية وتقبيل الرُّكب، ويكتب قصائد تُمجد الخرافات والبدع.
وتلك المرأة التي كانت تصدع رؤوسنا، بمناسبة وبدون مناسبة، عن الحرية والتحرر، أصبحت أول من تنادي اليوم باضطهاد بنات جنسها ومنعهن من أبسط حقوقهن، ولا تتحرج من التغني بـ“مسيرة القمع والاستعباد”.
◾في هذا الزمان، يوجد اختراع اسمه النت أو الشبكة العنكبوتية، وبفضله صار العالم أشبه بالقرية أو بالأصح الغرفة الصغيرة. ومن خلال النت صار باستطاعة المرء معرفة ومتابعة ما يجري في هذا العالم، الغُرفة،من أحداث ومتغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية ورياضية وفلكية.. الخ.
وهو جالس في مقعده في غرفته أمام شاشة التليفون أو اللابتوب أو التليفزيون؛ صار المرء يتابع كيف تُبنى الأوطان وتتقدم وتتطور الشعوب والمجتمعات. وأهم عوامل نجاح هذا المجتمع وأسباب تميزه في حفاظه على خطوات تقدمه، وما يجعله يتصدر قائمة الدول المتقدمة.. وأيضاً أهم الأسباب التي تجعل أي مجتمع يعود ويسقط إلى أسفل قائمة الدول المتخلفة.
بفضل تقدم وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، صار الواحد منا أكثر وعياً وإدراكاً لما يجري حوله، ويستطيع التمييز بين الصدق والدجل والصواب والخطأ، والمنجزات والترّهات. مع ذلك نجد هناك من يتغنى بترقيع شارع فرعي في مدينة رئيسية، ويرى فيه “منجزاً باهراً“، ويعتبر توفير خزان مياه لمستشفى حكومي مشروعاً عملاقاً يستحق التقدير بإقامة احتفال تدشين.
◾الكوادر المؤهلة تمثل حجر الزاوية لمسار مجمل عمليات البناء والتطور في المجتمع.. وبمقدار نسبة تواجد هذه الكوادر في المؤسسات والمرافق، ترتفع أو تنخفض مؤشرات نجاح وتطور وتقدم هذا المجتمع أو ذاك.
في المؤسسة التي أعمل فيها كان لدينا قبل الحرب مراسل نركن عليه في متابعة معاملاتنا ومستحقاتنا المالية، ونعرف منه موعد صرف المستحقات الجماعية. كنت أرسل له رسائل نصية أسأله فيرد عليَّ بسؤال، وأضطر بعدها للاتصال، بسبب ضعف استيعابه.
مرة دخلت مكتب أحد الزملاء، فانفجر ضاحكاً عندما رآني. سألته عن السبب فقال لي بعد أن هدأ: المراسل سألني أيش هذي العلامة المُعصْوَرة اللي يرسلها لي عبدالقادر دائماً؟
اتضح أن المراسل لا يعرف معنى علامة الاستفهام (؟)، ولهذا عندما كنت أسأله أسئلة مثل “صرفوا اليوم؟”، كان يرد عليَّ: “من قال لك؟”. المؤسف أن ذلك المراسل أصبح اليوم مشرفاً ومسؤولاً على كثير من الصحفيين.
◾أبحث عن أفكار متفائلة، لكن كل شيء في هذا البلد يدعو للعجب والقلق، ويؤدي إلى الإحباط واليأس. التقيت اليوم برجل عجوز، نحيل وهزيل، أكل الدهر منه ما أكل وشرب ما شرب، وتركه بقايا إنسان. قال لي الرجل إنه مناضل من مناضلي الثورة اليمنية.. الأكتوبرية!
مسكين هذا المناضل، لا يعلم أن الزمان لم يعد ذاك الزمان؛ والنضال لم يعد ذلك النضال. لم يستوعب بعد أننا نعيش زمن المناضلين الجدد، الذين يعيشون في قصور مشيدة، ولديهم رصيد ضخم من “النضال” في بنوك مختلفة، محلية وعربية وأجنبية.. سيماهم في كروشهم من أثر النضال!
◾حبل الكذب قصير، وللصبر حدود. والجوع كافر.. وسيأتي يوم يخرج فيه الذين لا يجدون في بيوتهم قوت يومهم -وهم كثر- إلى الشارع، مدافعين عن حياتهم التي تذبحها سيوف الجوع والخوف والظلم والقهر.
بلاد مُعصْوَرة فعلاً.. لكن إلى متى؟