“أردت استخراج بطاقة شخصية لأنتسب للجامعة، ولكنني لم أستطع نظراً لإجراءات مناطقية تمنع ذلك”، تقول أوراس فهيم (20 عاماً) التي بدا عليها اليأس والإحباط بعد سنتين من مراجعتها المتكررة لمصلحة الأحوال المدنية والسجل المدني في محافظة لحج، التي تمتنع عن صرف بطائق شخصية لأبناء النساء الجنوبيات المتزوجات من شماليين، بالمخالفة لقانوني الجنسية والأحوال المدنية والسجل المدني .
أوراس فهيم واحدة من ضحايا انتهاكات جسيمة ارتكبتها أطراف الصراع الدموي على السلطة، المستمر منذ صيف 2014، ما تسبب في تمزيق نسيج المجتمع اليمني وتقطيع أوصال البلد الفقير إلى كانتونات محكومة بمليشيات حزبية مدعومة من دول إقليمية، حسب فريق الخبراء في لجنة العقوبات التابعة للأمم المتحدة.
وفي حين رفض مدير الأحوال المدنية في لحج نصر علي، التعليق على ما جاء في هذا التقرير، تحدث لـ”يمن سايت” مسؤول حكومي في لحج، عن “توجيهات شفهية صادرة عن مسؤول أمني في المحافظة بمنع صرف بطائق شخصية أو شهادة ميلاد لأبناء النساء الجنوبيات اللاتي تزوجن من الشمال، وللمواطنين الشماليين المقيمين منذ أكثر من أربعة عقود في لحج”.
يقول المسؤول الذي اشترط عدم كشف هويته: “مُنع ترفيع ملفاتهم (أبناء الجنوبيات) من قبل الجهات المختصة في الأحوال المدنية، حتى لا يحدث تغيير ديموغرافي واستيطان في جنوب اليمن من قبل أبناء الشمال”.
عبثية قاتلة
تنص المادة 49 من قانون الأحوال المدنية والسجل المدني على “حق كل شخص من مواطني الجمهورية اليمنية بلغ السادسة عشرة، أن يحصل من إدارة الأحوال المدنية والسجل المدني الذي يقيم في دائرتها على بطاقة شخصية”. وهو ما ينطبق على أوراس فهيم التي ولدت في مدينة الحوطة عاصمة محافظة لحج، وترعرعت وأكملت تعليمها الأساسي والثانوي فيها.
وفي وقت يتقاسم المجلس الانتقالي السلطة مع شماليين، ويسافر قادته وموظفوه بجوازات تحمل اسم الجمهورية اليمنية وشعارها، تُحرم أوراس من حقها الدستوري والقانوني في الحصول على بطاقة شخصية، بدعوى أن والدها ينتمي إلى المقاطرة. وهي مديرية كانت تتبع محافظة تعز، وفي عام 2000، ضُمت بقرار جمهوري إلى محافظة لحج، ومازالت تخضع مالياً وإدارياً لمحافظة لحج حتى تاريخ نشر هذا التقرير.
حرمان أبناء الجنوبيات المتزوجات من شماليين، من الجنسية، مثل انتكاسة كبيرة لجهود المرأة اليمنية التي ناضلت على مدى عقود لتحصل في عام 2003 ، على تعديل قانوني يسمح لأبناء اليمنية المتزوجة من أجنبي بالحصول على الجنسية اليمنية.
وما يزيد الأمر سوءاً وغرابة هو أن هذه الإجراءات لا تستند على قواعد قانونية مكتوبة، وهو أمر لم يحدث حتى في عهد الاستعمار البريطاني لجنوب اليمن، الذي كان يمنح الشماليين المولودين في عدن شهادات ميلاد، ويسمح بتجنيد شماليين في صفوف قواته بنسبة ثلاثة إلى واحد (ثلاثة جنوبيين مقابل شمالي واحد)، حسبما يذكر المؤرخ الراحل سلطان ناجي. في كتابه:” التاريخ العسكري لليمن (1839-1967 )”.
دولة بلا قانون
يقول المجلس الانتقالي الجنوبي الذي يسيطر على المحافظات الجنوبية، إنه يسعى إلى استعادة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية التي ذابت هويتها وهوية الجمهورية العربية اليمنية في هوية جديدة هي الجمهورية اليمنية انبثقت في 22 مايو 1990 مع إعلان الوحدة بين الشمال والجنوب.
لكن المجلس منذ تأسيسه في مايو 2017، لم يسن حتى الآن تشريعات تنظم دولته المزعومة، بما فيها قوانين الجنسية والسجل المدني، حسبما يؤكد لـ”يمن سايت” مدير الشؤون القانونية في المجلس الانتقالي الجنوبي، المحامي فوزي الحالمي.
يقول الحالمي: “لا يوجد إلى الآن نص في لوائح المجلس الانتقالي يقنن منح البطاقة الشخصية”. مشيراً إلى أن توجه المجلس الانتقالي هو عدم السماح للمواطنين من المناطق الشمالية باستخراج أية وثائق رسمية تثبت انتماءهم ة محافظة جنوبية، منها البطائق الشخصية وشهادة الميلاد.
بيد أن الحالمي، وهو رجل قانون، لم يقدم تفسيراً لحرمان أبناء الجنوبية المتزوجة شمالياً، من الجنسية، في ظل عدم وجود قوانين جنوبية، واستمرار مصلحة الأحوال المدنية في المحافظات الجنوبية بالعمل بقوانين الجمهورية اليمنية، ومنها قانون الأحوال المدنية وقانون الجنسية اليمنية.
وفيما طالب أدهم الغزالي، وهو أحد الموالين للمجلس الانتقالي في لحج، بسن قوانين تنظم “الإقامة والعمل لكل الوافدين من أبناء الشمال المتواجدين في الجنوب”، اكتفى الحالمي بالقول: “نحن (المجلس الانتقالي) نعتبر كل الشماليين موطنهم في الشمال”، من دون أن يعطي رأياً قانونياً لحالة أوراس.
لكن مدير مكتب حقوق الإنسان في محافظة لحج، حياة الرحيبي، وحقوقيين اعتبروا حرمان شخص من حق الجنسية بدون قانون انتهاكاً سافراً للتشريعات المحلية وللمواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان.
تقول الرحيبي لـ”يمن سايت”: “هذا الإجراء مخالف للقوانين، وانتهاك بحق النساء الجنوبيات اللاتي تزوجن من رجال من المناطق الشمالية”.
وبحسب الرحيبي، فإن التوجيهات الشفوية بحرمان أبناء الجنوبيات المتزوجات من شماليين، علاوة على عدم قانونيتها، لا يعمل بها في بعض المحافظات الجنوبية مثل أبين.
وأبين هي مسقط رأس الرئيس اليمني السابق عبد ربه منصور هادي، المنتمي إلى جنوب اليمن، إلا أنه، ومعه قيادات جنوبية، مُنعوا من البقاء في عدن، بينما سُمح لشخصيات شمالية مثل رئيس الحكومة معين عبدالملك، ووزراء شماليين، بالعمل في عدن، في واحدة من مفارقات الصراع اليمني الذي وإن رفعت أطرافه شعارات مذهبية وانفصالية، إلا أن الوقائع تشير إلى أن الصراع سياسي .
وبينما حرمت أوراس من الحصول على البطاقة الشخصية “رغم أنني ولدت وترعرعت في مدينة الحوطة”، كما تقول لـ”يمن سايت”، أكدت مصادر أمنية صرف بطائق شخصية لشماليين بأوامر من قيادات أمنية، فيما تحدث سكان ومسافرون عن مشاركة جنود شماليين يتبعون قوات الساحل الغربي، في نقاط أمنية تابعة للحزام الأمني في الطريق الواصل بين عدن ومديرية طور الباحة.
وكانت فصائل جنوبية مسلحة نفذت بدءاً من عام 2016، عمليات تهجير جماعية لشماليين يعملون في مهن مختلفة. ولئن انحسرت هذه العمليات، بيد أن شماليين يعملون في الجنوب اشتكوا لـ”يمن سايت” أنهم يتلقون معاملة غير إنسانية.
يقول معن (اسم مستعار): “كلما مررت من إحدى نقاط التفتيش يستوقفني الجنود بألفاظ سيئة، ومعاملة غير لائقة، كل هذا لأنني من أبناء المناطق الشمالية”.
ويضيف معن الذي يملك بسطتين لبيع الخضار؛ واحدة في لحج، والثانية في أبين: “لم أقترف أي ذنب، غير أنني أمتلك بطاقة صادرة من محافظة إب، وهذا ما جعلني عرضة للمعاملة السيئة من قبل نقاط التفتيش. نحن ضحية خلافات سياسية”.
انقسام جنوبي
شهدت الساحة الجنوبية عقد جولات مصالحة جنوبية جنوبية، إلا أن الانقسام بشأن الوحدة والانفصال مازال ظاهراً على المجتمع الجنوبي.
يقول لـ”يمن سايت”، الغزالي: “الوحدة اليمنية انتهت بعد حرب (1994م و2015م)، واستباحة الأرض والهوية الجنوبية وتدمير مقوماتها”.
لكن الصحفي خالد دهمس، المنتمي إلى محافظة أبين، يرى أن الحل يكمن في “وجود حكومة واحدة متساوية بين الشمال والجنوب، يحكمها النظام والقانون والمساواة، وفق معايير الكفاءة، وتوحيد المؤسسات العسكرية والأمنية على أسس وطنية”.
يقول دهمس لـ”يمن سايت”: “الجنوب اليمني والوطن عموماً بحاجة إلى مصالحة داخلية وتوازن في قواه الحية، والعدالة في بنيته الأمنية والعسكرية، حتى يستطيع أن يتغلب على أزماته، ويحافظ على التماسك المجتمعي لأفراده”.