في مرضه الأخير، زاره محمد حسنين هيكل، من غير موعد، وعلى غير قصد. فقد منع الأطباء الزيارة على رئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو. لكن هيكل قرر الذهاب، وكان في زيارة للهند، إلى منزل البانديت نهرو، ليكتب تحية في سجل الزيارات، وشاءت الصدفة أن تكون أنديرا في الداخل قريبة من المكان، فلاحظت الضيف المصري، وأشارت إليه، ثم سألته إن كان يرغب في رؤية والدها، وصعد إلى حيث يرقد في سرير في حجرته، وعلى غير ما تمنت أنديرا، طار الحديث بإلحاح ورجاء من أبيها. وفيه طاف في أوضاع الهند، وفي أحوال العالم، وتذكر نهرو الجرح؛ جرح انقسام الهند في فجر الاستقلال.
قال إن محمد علي جناح قال، وكأس الشمبانيا في يديه، إنه لن يوقع على وثيقة الاستقلال إذا لم تنص على دولة خاصة بالمسلمين. كان قرارًا بريطانيًّا أعلن على لسان زعيم مسلم. ولم يقل نهرو إن أنديرا ستخوض بعد 7 سنوات من وفاته، حربًا تفصل شرق الباكستان عن غربها، وتقوم دولة بنجلادش، إذ لم يوفر الدين رابطًا متينًا بين عرقي البنغال في الشرق والبنجاب في الغرب، حيث استبد هؤلاء الأخيرون بإخوانهم في الدين، إلى أن كانت الكارثة التي جعلت الهند تتبرم من تدفق 3 ملايين بنغالي إلى أراضيها، وتشن الحرب.
قبل أيام، كنت أقرأ في كتاب الفرنسي – اللبناني أمين معلوف “غرق الحضارات”، واستلفتني أنه يستشهد بالحالة الباكستانية في تأكيد أن انقسام أية دولة يقود إلى انقسامات متتابعة. والحالة ماثلة في أكثر من بلاد، ومتجلية على نحو خاص في السودان الذي انقسم قريبًا، دون أن يأمن الجنوب من حرب أهلية، أو تتوقف في الشمال حروبه القديمة الباقية.
ومن غير انتظار ما كتب معلوف، فقد كان القلق يساورني، مثل كل اليمنيين، مما يمكن أن تؤول إليه الأحوال في اليمن إذا نجح الحراك (المجلس الانتقالي في ما بعد) في تحقيق فصل جنوب اليمن عن شماله. إن الهاجس يمض النفس رغم عدم وجود أعراق في اليمن، ورغم أن المذهبية الدينية ليست صارخة بأية حال.
في وقت من الأوقات، تبادل من قالوا إنهم قحطانيون، مع من ادعوا أنهم عدنانيون، التفاخر، ولكن ظل السجال في نطاق الطبقة المشبعة بالثقافة التقليدية. وفي الواقع، كان رداح دراويش لا يعبر عن انقسام عمودي أو انقسام أفقي في المجتمع. وبصرف النظر عن التمثيل النسبي من عدد السكان، فإن الطائفتين -إن جاز الوصف- مشتبكتان في طول البلاد وعرضها، وليس هناك من يختص بنطاق جغرافي محدد.
وفي اليمن مذاهب، غير أن الوعي بها لا يخرج من أسوار المدارس والبيوتات الدينية العتيقة.
ولا يشكل الأحناف المتواجدون في تهامة، طائفة ذات وزن. والإسماعيليون طائفة مغلقة شديدة التماسك، لها طقوسها، ولها مكانتها في الضمير الوطني، من أثر التجربة الثرية للدولة الصليحية التي أرست العدالة، وصنعت بنية أساسية حديثة بمعيار عصرها، لكن هذه الطائفة تعيش حالة حذر وقلق من تأثير الاضطهاد الذي تعرضت له على أيدي الأئمة.
كثيراً ما يذكر التمايز بين المذهبين الأوسع انتشارًا في البلاد؛ الشافعي والزيدي، والحقيقة غير ذلك، فإن الزيدية لم تنخرط في الصراع السني الشيعي القديم، وهذا الصراع كان قد بات شيئًا من الماضي، قبل أن تعيد إحياءه الوهابية والاثنى عشرية في إيران. وفي عهد قريب كانت العروبة جامعًا اختفت تحته المذهبية حتى لا تبين في مظاهر الناس، ولا في أسلوب حياتهم. وفي اليمن على وجه التحديد، يحدث مع الهجرات الداخلية أن يهجر الناس مذهبهم القديم، ويتخذوا مذهب أهل المنطقة التي يستقرون فيها. يحدث هذا بالتعايش وبالتأثر، وخلال الجيل الثاني أو الثالث على الأكثر.
خلافًا للمذهبية الدينية، يظهر تأثير المناطقية والجهوية على الأزمات والنزاعات، وحتى الحروب التي تشهدها البلاد بين وقت وآخر. وليس في علمي متى نشأ مصطلح اليمن الأسفل واليمن الأعلى في الجزء الشمالي من البلاد، مصطلح مازال يجري على بعض الألسن حتى اليوم. ولئن كان معناه ينصرف إلى طبيعة التضاريس، والتمييز بين الهضبة العليا وبين الوادي والساحل، فقد اكتسب في بعض الأحيان دلالة سياسية حملت نوعًا من الاستعلاء عمقته الإمامة، ولم تستطع الجمهورية التخلص منه. لاح هذا في الصراع المبكر داخل المعسكر الجمهوري، مع تباين مواقف بعض الشخصيات التي جمعتها المصالح في جانب، والمواقف المبدئية على الجانب الآخر. ذلك جرى التعبير عنه في انقلاب 5 نوفمبر، حيث لم يأخذ طابع التحيز لهذه الجهة أو تلك، بقدر ما حكمه التماهي مع موقف مصر مقابل الرغبة في التفاهم مع المملكة العربية السعودية. لكن، ومع استقرار السلطة في يد هذا الأخير، ظهر الشرخ فجأة، ووقعت أحداث أغسطس 1968. في ما بعد سيؤخذ إبراهيم الحمدي بواسطة مجموعة صغيرة من القتلة، بعد أن كاد الرجل يرمم ذلك الشرخ، ويجسد السلطة الحائزة على الرضا العام.
في الجنوب، اتخذت دورات العنف هذا المنحى من غير أن تفلح العباءة الأيديولوجية في إخفائها. تجلى هذا بشكل سافر في يناير 1986، ثم في مايو 1994، عندما استخدمت صنعاء أبين المهزومة للانقضاض على الضالع المنتصرة. وقد أدى ذلك إلى تصفية الجيش الجنوبي السابق، وتسريح ضباطه وجنوده، وإكراههم على الموت جوعًا، أو الاشتغال في مهن وضيعة. عندئذ ولد الحراك، ومنه جاء المجلس الذي لم يزل يكافح من أجل إقامة دولة في الجنوب، ولقد صار للمجلس جيش وشرطة، وباتت البلاد مشطورة ومرشحة إلى الانقسام على أكثر من اثنين.
هل يستطيع اتفاق الرياض أن يمنع هذا الانشطار والتشظي؟
في الأصل، جرى توقيع الاتفاق بضغط ومساومة بين دول التحالف، وقد انتظر أكثر من 13 شهرًا تخللتها مصادمات عسكرية عنيفة، ثم خرج إلى حيز التنفيذ بالضغط نفسه والمساومة إياها. ولا أريد أن أقول إن أحد طرفي التوتر في الجنوب ضعيف، وإن الآخر يعاند، وإنما الحقيقة الماثلة أن الثقة غير قائمة، وأن ليس في الأفق ما يوحي أنها ستبنى وتترسخ، فكلا الطرفين أدارا ظهريهما للحوثي، بينما يقفان في حالة تربص ببعضهما.
ذلك يهدد بانفجار في أية لحظة، وهو قبل هذا ينعكس على أداء الحكومة المشكلة بموجب الاتفاق، فهي ستواجه صعوبات تمنعها من أن تمارس مسؤوليتها في أجواء التوتر والقلق. ومن اللحظة الأولى، فإن انعدام الثقة سيقيد أيديها عن أداء مهامها الملحة في إيقاف التدهور الاقتصادي، وكبح جماح التضخم وانهيار العملة، كما في استعادة الأمن دون أي حديث عن استعادة الدولة. ذلك في المدى القصير، وأما في المدى الطويل، فليس يعقل أن تستمر دول التحالف في القيام بدور الحارس، وسوف تجد نفسها تبحث عن وسائل تخرجها من الفخ اليمني. يومئذ، وإذا ما صمم المجلس الانتقالي على الانفصال، فسوف تحضر الرواسب، وتنفجر البلاد، وتتطاير شظايا. كذلك سيؤدي خروج التحالف من اليمن إلى التعبير عن الغضب في ثورة قد لا تبقي الشمال في وضعه القديم، فإن بعض ما يمنع الناس الآن هو معزوفة الحوثي عن التدخل الخارجي الذي يعبر عنه بالعدوان.
وهكذا يبدو التفاؤل ترفًا لا نقدر عليه. مع ذلك دعونا نقل إن هذه وساوس، وأن المضمر هو المعلن عينه، وأن هناك ملحقًا غير مكتوب لاتفاق الرياض، بتوجيه سلاح الأطراف المتنازعة الآن في الجنوب، نحو الحوثي، حتى يقبل بالجلوس إلى مائدة التفاوض، وإنجاز تسوية تحافظ على وحدة اليمن واستقلاله واستقراره.
قد تبدو هذه مجرد رغبة ومنى لا تستند على حقائق، لكن ألا يدرك الذين اتفقوا بالأمس، خطورة المضي في المغامرة التي ستحرق البلاد، وتحرقهم معها؟