قبل الفجر بساعة، أو مذكرات الريف، للرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، تحكي رحلته من الطفولة إلى البيت الأبيض، حيث سيملي هنا يومياته على سكرتيرته، ثم ينشرها بعنوان مذكرات البيت الأبيض.
استمد كارتر عنوان مذكرات الصبا من حياته في ريف ولاية “جورجيا”، في جنوب شرق أمريكا، حيث كان يصحو قبل الفجر بساعة، ويخرج إلى مزارع والديه للفول السوداني، يشتغل ويكد، قبل أن يعود إلى المنزل، ويجهز نفسه للذهاب للمدرسة.
من هنا العنوان، وليس من قصة محمد عبدالولي “الأطفال يشيبون عند الفجر”، فقد كنت أشاهد صورًا وفيديوهات أرسلها لي عبر الهاتف الصديق الشيخ محمد عبدالله نايف، لحواجز مائية تشيد وطرق ترصف بالحجارة وبأعلى المواصفات الهندسية. استوقفني حماس وهمة العاملين الذين يشتغلون على وقع أناشيد وطنية تعيد أجواء منتصف السبعينيات، في ذروة نشاط الحركة التعاونية. وإذ انفعلت بما رأيت، قلت في نفسي لا بد أنهم يصحون قبل الفجر، وفي ذهني ما عرفت من حياة اليمنيين في الريف، فقفز من الذاكرة عنوان كتاب كارتر الشيق.
لا شك أن فارقًا كبيرًا بين النشاط المحموم الذي شهدته الجمهورية العربية اليمنية السابقة، وبين ما يشاهد في مناطق مختلفة من اليمن الآن.
في السبعينيات ظهرت الحركة التعاونية خجولة على عهد الرئيس عبدالرحمن الإرياني، بمبادرة من العقيد إبراهيم الحمدي، نائب رئيس الوزراء للشؤون الداخلية. قد يعترض البعض -سمعت هذا من قبل- ويقول إن الأستاذ أحمد عبده سعيد هو الذي أطلق صفارة الحركة التعاونية، بإنجازه المشروع الأنيق شمال غرب مدينة تعز، في الهضبة التي اتخذت اسمها منه “المسبح”، لكن هذا يجافي الحقيقة تمامًا، فالمشروع يخدم الطبقتين البرجوازية والوسطى، ولا يمت بصلة لحياة وحاجات أغلبية الناس. فلم يكن أكثر من مطعم وسينما ومسبح وصالة، وبالطبع مكتب إدارة. وأما التعاونيات التي تطورت إلى حركة شاملة، فقد استهدفت مشاريع البنية الأساسية (طرق ومدارس ومياه ومراكز صحية)، واحتلت الطرق الأولوية بالضرورة، لأن الأخريات لا تقوم من غيرها.
وقد بدأت ما سميت هيئات التعاون الأهلي للتطوير في نطاق محدود، واتخذت طابعًا تنظيميًا تبلور في الاتحاد العام للتعاون الأهلي، انتخب لرئاسته صاحب المبادرة والدينامو المحرك لها “إبراهيم الحمدي”. ولم يخسر الموقع بعد توليه رئاسة الدولة في 13 يناير 1974، وإنما أعيد انتخابه بحماس حقيقي، ومن موقعه كرجل أول عمم التجربة، فانتشرت الهيئات في كافة أنحاء الجمهورية. ولقد حدد القانون مواردها، وشملت 25% من حصيلة الزكاة لكل مديرية، فضلًا عن التبرعات وغرامات ومصادر حددها القانون. وكانت الإنجازات أكبر بكثير من حجم الموارد المالية، ومرد ذلك مبادرات المواطنين وانغماسهم في العمل المجاني. وهذه بالذات واحد من أبرز ملامح التعاونيات، فلم يسبق أن شاهدت اليمن مبادرات شعبية من ذلك الطراز الذي تجسد في تجربة الحركة التعاونية الرائعة. وثمة ملامح عديدة غير ما استقر في الأذهان، وانحصر في بعدها التنموي، ففيها انطوت بذرة الديمقراطية بأجلى صورها. ولقد كان مقدرًا لها أن تينع وتثمر أكثر مما أثمرت لولا انقلاب 11 أكتوبر 1977.
ليس هذا خارج السياق، بل لعلي أقول إن الحركة التعاونية تحتاج إلى مزيد من الأضواء الكشافة لدراستها وإبراز قيمتها في إطار المشروع الوطني المتكامل الذي أشع على اليمن تلك اللحظة.
نحن الآن أمام تجربة جديدة تتخلق على أيدي مغتربين في المملكة العربية السعودية. وهي تختلف عن الأولى من زاوية أنها قائمة على مبادرات أفراد، وليست في إطار مشروع وطني تبنته الدولة على غرار سابقتها التي كانت ثم اختفت. على العكس، لقد جاءت هذه التجربة الأخيرة في لحظة انسحبت فيها الدولة، وتخلت عن وظيفتها، بالأحرى عن وظائفها بالمعنى الشامل. حتى وظيفتها التقليدية في تحقيق الأمن الداخلي والخارجي المنوطة بمرافق الدفاع والشرطة والقضاء، تخلت عنها أو عجزت بعد أن استغرقتها شواغل الحرب الأهلية، ولعلها على نحو ما تضرب بسواعدها الأمن، وتنقض على العدل، وتفرط بالاستقلال. طبيعي، والأمر كذلك، أن دولة الرفاهة المعنية بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية وتوفير الخدمات العامة، باتت مشلولة وعاجزة، إذا بقي لها وجود.
لا بأس، سوف أتوقف أمام بعض المشاريع التي أرى صورها أمامي، وبعضها أنجز بالكامل، والأخرى قيد التنفيذ. والمتاح عندي في مناطق بالعدين وشرعب، وهي:
– حاجز مائي بعزلة الأمجود.. طول البحيرة 150 مترًا، وبعرض متفاوت الأبعاد، وارتفاع 20 مترًا للحاجز. التكلفة غير معروفة، والممولون أولاد المرحوم عبدالواحد أحمد قائد.
– طريق ممتد من خط العدين – الجراحي في اتجاه البعادن، بطول 20 كيلومترًا، وبتكلفة إجمالية مليار ريال، نفذ منه ما قيمته 600 مليون ريال.
– سدود بالأمجود قيمتها 500 مليون ريال.
– طريق العبري – العمارنة – رماضة، بطول 12 كيلومترًا، وبمواصفات عالية، جدران ساندة وعبارات للمياه.
– تحت التنفيذ نقيل المسجدين بالسارة وطريق السنعات شلف.
– وفي مذيخرة نفذت مشاريع خلال 10 سنوات، بتكلفة مليار ريال.
ولا أدري إن كانت هناك مشاريع مماثلة في مديريات أخرى، باستثناء ما ذكر عن أنهم في وصاب رصفوا طرقًا خلال 10 سنوات، بتكلفة 6 مليارات ريال.
قد ألاحظ أن حساب التكلفة ليس مضبوطًا، بالنظر إلى عدم استقرار سعر صرف الريال، ولا أظنها احتسبت على أساس سعر معياري في إحدى السنوات، أو أن هناك دفاتر تحتفظ بحسابات بالدولار أو الريال السعودي.
المثير للإعجاب أن ممولي المشاريع لا ينتمون للطبقة الرأسمالية العليا. إنهم مغتربون يعملون في مهن عادية، وبعضهم يملك أعمالًا تجارية صغيرة رأس المال. وليس في علمي أنهم أقاموا تنظيمًا اجتماعيًا دائمًا لإدارة هذه الأعمال، لكن صورة من التي شاهدت، تعكس روح الجماعة والتحمس للبذل. في الصورة تشابكت أيدٍ عديدة كما لو أنها تبعث رسالة لأيدي سبأ التي تفرقت واحتربت. وفي وقت أغوت الأنانية من كانت المسألة الاجتماعية شاغلهم، جاءت الرسالة من أبناء المهجر تقول: لقد نسيتم دروسكم.
ولقد تكون هذه الروح الوثابة على أن العدين تتغير، وأن شرعب تستفيق من محنة الغرق في وحل التشاجر وضخ الأموال إلى جيوب الحكام. إنها دعوة إلى الاستيقاظ قبل الفجر. فجر السلام الذي لا بد أن يعقب الحرب التي أغرقت البلاد في الظلام.