يحيى عمر الشاعر “الهائم” ، الذي انتقل ضمن جيش الإمام من يافع إلى حضرموت، ومنها إلى الهند صحبة مؤسس “السلطنة القعيطية”..
لا تزال روح القصائد الخالدة، لـ”يحيى عمر اليافعي” ، متجددة عبر العصور ، بألحانها وإيقاعاتها، الفريدة ، وبالشجن والولع والهيام واللوعة.
فهذا الشاعر، الذي جاب البحار، وبنادر القرن الـ17 ، كان فناناً أيضاً. كان يكتب أبياته على ظهور السُفن، كأي بحار شجاع ، عاشق ، مفتون بالنساء الجميلات.
عندما يبلغ “الهيام” ، مستوى الشغف ، تفيض قلوب العاشقين شعراً . وكان “يحيى عمر”، أحد هؤلاء الهائمين ؛ فياضاً ، كثير الأسفار، حيث لم يرتوِ ضمأه حتى آخر قصيدة.
يحيى عمر قال والله ما دريت .. ان الهوى هكذا يفعل معي
والله لو كنت أدري ما اهتريت.. أني مع العشق شاهر شاجعي
ولا عاد في باحة العشة دويت .. ولا تسميت يحيى اليافعي
كم قمت في الليل أدور ما لقيت.. باسجل الخط واطرح “طابعي”
وكم مهاوي كثيرة قد رأيت.. واصبحت مثل الريا ماشي معي
وفي الليالي الظليمة كم سريت.. انا ومن كان مثلي مولعي
فليت وان مال صنعاء مارضيت.. يصبح بملكي وأرض الموزعي
أجني معك بالعنب ياذي جنيت.. ولا نهاب السيوف القاطعي
هذا الذي بالهوى فيه ابتليت .. مع نسور الهوى والسافعي
والله لاحد عرض بي كم جنيت.. بالهند والشام وأرض الشافعي
وكم يقولوا لي اخضع مارضيت.. إلا متى كان قلبي قانعي
تجسد هذه القصيدة، حالة الهيام لدى الشاعر، التي بلغ أعلى مستوى، حيث الشعور بالتعب المفضي إلى السهر. وفي الليل يتذكر، يحيى عمر، تجاربه ، ومغامراته ، والغرام:
وفي الليالي الظليمة كم سريت .. أنا ومن كان مثلي مولعي.
ملمح من حياته:
ينتمي “يحيى عمر” ، إلى منطقة “يافع”، اليمنية، لكن صيته ذاع عبر قصائده، التي بلغت آفاق الجزيرة العربية ووصلت أقاصي الهند والشام. وإذا كان الشاعر، قد عاش النصف الأخير من القرن الـ11 الهجري (17 م)، حيث انتقل ضمن شباب “يافع”، مع جيش الأئمة القاسميين، بقيادة “سيل الليل”، إلى حضرموت، ومنها عبر البحر، هاجر إلى الهند والبصرة، وظل متنقلاً بين بنادر: حيدر آباد، البصرة، المخاء، الشحر، عدن، الحديدة، وغيرها.
هذا الإنتقال، أكسب قصائده خصائص وسمات جديدة، جعلت العديد من الباحثين والنقاد ينسبونه إلى أكثر من مكان، ليتحول إلى “لغز”. لكن إسمه، وكنيته ولون أغاني الجبال اليافعية ، ظلت السمة الأبرز، التي تميزت بها قصائده، وغردت بها، “يافع” على امتداد اربعة قرون.
“أبو معجب” هي كنية الشاعر، التي كان يُعرف بها لدى قبيلته: “يافع”. و”يحيى عمر”، هو إسم الشاعر العاشق، الذي ظل يصدر به جميع قصائده:
ـ يحيى عُمر قال قف يازين ـ يحيى عُمر قال يا طرفي لما تحزن ـ يحيى عمر قال حن الرعد حن ـ يحيى عمر قال ما شان المليح ـ يحيى عمر قال لا تلوم المولع ـ يحيى عمر قال يا جفني لما تسهر ـ يحيى عُمر قال يوم النور ـ يحيى عُمر قال أمانة يا هنود ـ يحيى قال محسن لوله ـ يحيى قال لا بندر عدن ـ يحيى عُمر قال دمعي سال ـ يقول يحيى عمر من كم .. هذا العسل با نشتري مثله.
وينتمي الشاعر، يحيى عمر الى بيت مشهورة في يافع هو بيت “الجمالي”، التي يشير إليها في أكثر من مناسبة بقوله:
يارب سالك بمن أركانه أربع .. والخامس الفرض موجوبة على الواحد
وامحي ذنوب “الجمالي” وارزقه اربع.. أنت الذي عالماً في نية الواحد
قال “الجمالي” مفارق لي سنين اربع.. لا بد من ذا وذا يجري على الواحد
في كتابه “الجامع”، أشار المؤرخ الحضرمي المعروف محمد عبدالقادر بامطرف، إلى أن الشاعر، ينتمي إلى الشيوخ ” آل هرهرة” الذين قدموا من قرية “المحجبة” من يافع، إلى حضرموت، عندما كان محمد صالح بن هرهرة (اليافعي)، أحد قادة الجيش (جيش المتوكل على الله اسماعيل بقيادة ابن أخيه ؛ أحمد بن الحسن الملقب سيل الليل)، الذي وصل إلى “سيئون” في 15 ربيع أول سنة 1069 هجرية ، وكان يحيى عمر ضمن هذه الحملة إذ يبلغ من العمر 21 عاماً.
“يا مركب الهند بو دقلين”:
شهد القرن السابع عشر، موجة واسعة من المهاجرين الحضارم إلى شرق آسيا، ولأن أهل يافع القادمين ضمن الجيش الى حضرموت، قد مكثوا هناك على تخوم المدن الحضرمية، فقد هاجر الكثير منهم أيضاً. وكان ضمن هؤلاء المهاجرين إلى مدن الهند واندونيسا، الشاعر يحيى عمر اليافعي، مع آخرين من “يافع” وحضرموت ، أبرزهم الشاعر حسين بن عبدالله بن عوض القعيطي، نجل مؤسس السلطنة القعيطية (لاحقاً) أمير “الشحر” يومها.
وبما ان تاريخ النزوح من يافع الى حضرموت، ثم الهجرة الى الهند، يتطابق من الناحيتين السببية والزمنية، مع قصة يحيى عمر، فإنه يصح القول ، على وجه التقريب، بأن الشاعرين (يحيى عمر اليافعي، وحسين بن عبدالله القعيطي) كانا رفيقي درب وصديقين، يجمعهما، إلى جانب المكان / الزمان ، القادمين منه / فيه، يجمعهما الشعر أيضاً. فالقعيطي ، هو من مشاهير الشعر الحضرمي في المهجر.
تنقل يحيى عمر بين مدينتي “بارودا” و “وحيدر اباد” الهنديتين، وأجاد اللغة الأوردية إجادة تامة، كما يقول المستشرق السويدي “دي سي فولت”، في مقال نشرته إحدى المجلات البنغالية، الصادرة عن الجمعية الاسيوية، سنة 1907، بعنوان:” بعض القصص الشعبية من حضرموت”.
اندمج المهاجرين اليمنيين مع تفاصيل الحياة الاجتماعية في الهند، وانخرط بعضهم في جيش إمارة “حيدر آباد”، حتى بلغ صالح بن عمر بن عوض القعيطي، رتبة رفيعة في هيئة أركان الجيش، اكتسب خلالها خبرة واسعة وثقافة عسكرية، أهلته لأن يكون الساعد الأيمن لأخيه عوض بن عمر، مؤسس السلطنة القعيطية في حضرموت.
هل انتمى يحيى عمر ضمن جيش حيدر اباد؟! ربما.. لكن لا تفاصيل في هذا الشأن، سوى الشعر الذي يجسد حالة الشوق واللوعة، نحو الوطن والحبيب، وهيام الشاعر بالمرأة أينما اتجه.
اضفت البيئة الجديدة (الهند)، مؤثرات وسمات جديدة، على شعره، نلحظها، مثلاً:
حاضر باش هندي ..براير شاباش .. مثل الشاش أبيض منقرش نقراش.. عقلي طاش.. مسكين أنا ما جهدي.
ومما يؤكد تفاعله مع روح الحياة الاجتماعية في الهند، قوله:
يحيى عمر قال بالله يا هنود .. قولوا لنا بنت من ذي الهندية
هي من الهند والا من سنود .. تفهم رطين العرب بالهندية
ما أجمل روح الشاعر، في أغنية :
يحيى عمر قال قف يازين .. سالك بمن كحل اعيانك
وشكلك بالحلل شكلين .. وشل لولك ومرجانك
من علمك يا كحيل العين .. من ذا الذي خضب اوجانك
وأنت يا بارز النهدين .. وقفت انا تحت روشانك
الورد شفته على الخدين .. وهو مطرح على اوجانك
لا ذقت حبة ولا ثنتين .. ما شفت وردك ورمانك
حملت يحيى عمر حملين .. وصار تعبان من شانك
يامركب الهند بود قلين .. يا ليتني كنت ربانك
بادخل بك الشام والبحرين .. واحمل المال في خانك
با نقسم الفايدة نصفين .. الله يخون الذي خانك
لك قسم في قسم في قسمين .. وقسم زايد على اخوانك
يا ليت لي في حياتك دين .. باسير واجي على شانك
ختم القصيدة بذكر الزين .. بكرة نقيل بديوانك
وهكذا ظل يحيى عمر مسافراً هائماً ، يفيض شعراً وغناءً. وتذكر المرويات أن هذا الشاعر العذب كان فناناً، حيث يجيد العزف على آلة ” القنبوس”، ( وهي آلة طرب يمنية قديمة، اصغر من العود يعزف اوتارها، الفنان، صنفتها اليونسكو ضمن قائمة التراث الانساني)، ولعل ذلك ما جعل قصائد يحيى عمر، تقرأ وكأن اللحن والموسيقى جزءً أساسيا من القصيدة، ومألوفاً كأي روح تنبعث من تراث اليمن وكنوزها العظيمة.