في الأدب السياسي أن حرارة الصيف تشعل سورة الغضب، وتدفع الشعوب أو الجيوش إلى الثورة.
الثورة الفرنسية هي المثال الصارخ، وقد بدأت أحداثها في 14 يوليو 1789، بالانقسام الكبير في الجمعية الوطنية بين حزبي الجبل والجيروند، وتطورت إلى الزحف وراء النساء من الطبقات الفقيرة على قصر فرساي، إعدام الملك لويس السادس عشر والملكة ماري أنطوانيت، في 1993، انتهاءً بعصر الإرهاب، وكان بطله وضحيته في الوقت نفسه روبسبير.
يقيس الذين التقطوا اللحظة بثورة العراق ضد النظام الملكي في نفس التاريخ (14 يوليو 1958). وكانت ثورة متوحشة غاصة في برك من الدم، ومنها تطايرت الأشلاء ملء بغداد. ثم يقيسون أن الضباط الأحرار في مصر نفذوا انقلابهم في الشهر نفسه (23 يوليو 1952)، وكادت الثورة تنزلق إلى المصير الموحش حين اقترح أحد رجالها (جمال سالم) إعدام الملك فاروق، ولقي تجاوباً من رفاقه. يومها سألهم جمال عبدالناصر عما إذا كان أحدهم قرأ رواية تشارلز ديكنز “قصة مدينتين”، وأجابوا بالصمت، فبين لهم مضمونها، وكانت عن الثورة الفرنسية، ثم قال إن أية ثورة تبدأ بالدم تنتهي بالدم.
لكن الدم لا يفور في حرارة الصيف وحدها، وإنما قد تشتعل النار في صفرة الخريف وفي صقيع الشتاء. ثورة أكتوبر البلشفية في روسيا انطلقت في السابع من نوفمبر، وإن اتخذت اسمها من التاريخ الروسي القديم. وقد سال فيها الدم حاراً وفواراً.
الثورة الإيرانية تعاقبت أحداثها طوال العام 1978، وأحرزت النصر في الشتاء، مطلع العام الذي يليه، وهي غرقت في الدماء حتى الآذان، ولم تزل بعد أكثر من أربعة عقود تطارد خصومها، وتسجن وتعذب الباحثين عن الرفاه والأمان من أبناء شعبها.
هل يصلح هذا الكلام مدخلاً للحديث عن موجات العنف في اليمن، الثورة والثورة المضادة؟
لا. لن أخوض في هذا الغمار المخيف، وإنما جعلت العنوان بين أكتوبر وأكتوبر، قاصداً بالأول ثورة الكفاح المسلح الذي توج بإخراج القاعدة البريطانية من عدن، وقصدت بالثاني الانقلاب الدموي الغادر الذي نفذه أحمد الغشمي، بمؤامرة إقليمية، للقضاء على أهم تجربة وأكفأ قائد وطني، وبالتالي قطع طريق اليمن نحو الرخاء والتقدم.
وليس جديداً القول بأن 14 أكتوبر كان حدثاً باهر الأضواء، افتتح كفاحاً مسلحاً تمكن خلال سنوات أربع من أن يجبر بريطانيا على أن ترحل بجنودها وسلاحها من أرض اليمن، ثم لم تلبث أن انسحبت من الخليج كله. وقد سجل الفيلم الوثائقي البريطاني “نهاية امبراطورية”، مشاهد العمليات الفدائية ضد الجنود والضباط البريطانيين، ومشاهد اعتقال وتعذيب الفدائيين، وكذلك المسيرات والتظاهرات في شوارع عدن ترفع صور جمال عبدالناصر، وتهتف ضد الاستعمار، وتغني للحرية.
لقد كانت ثورة 14 أكتوبر بالفعل هي الضربة الأخيرة الحاسمة التي أخرجت بريطانيا من شرق السويس كما درج التعبير، وكان من نتيجتها أن غابت الشمس عن الإمبراطورية االعتيدة.
والحقيقة الناصعة أن ثورة 14 أكتوبر كانت وليداً طبيعياً لثورة 26 سبتمبر. ففي صنعاء تأسست الجبهة التي خاضت النضال بمبادرة ودعم الحكومة الثورية، ومهما حدث من انقسام الجبهة إلى فصيلين تراشقا بالنيران، إلا أنهما لم يكفا عن توجيه السلاح إلى صدر المستعمر حتى إنجاز الاستقلال. وفي تعز جرى التخطيط لانطلاق الكفاح المسلح -ما سميت عملية صلاح الدين- بمشاركة ضباط مصريين. ومن تعز و إب تدفق السلاح والمؤن والذخائر أيضاً إلى الفدائيين. وفي تعز أقيم معسكر لتدريب المقاتلين، وبعضهم ابتعث إلى مصر لتلقي دورات في الكليات العسكرية وفي مدرسة الصاعقة على وجه التحديد. وإلى مدن وقرى في شمال الوطن ينتسب الكثير من قادة وقواعد العمل الفدائي، عبدالفتاح إسماعيل ومحمود عشيش وغيرهما كثيرون في الجبهة القومية، وعبدالرحمن الصريمي ومحمد عبدالله الصغير وآخرون بالمئات في التنظيم الشعبي للقوى الثورية.
في المقابل، انخرط جنوبيون بالمئات، وربما بالآلاف، في السلك العسكري، يقيمون سداً منيعاً لحراسة الجمهورية في صنعاء.
هناك في ملحمة النضال تجلت وحدة اليمنيين، حتى لتكاد ثورة 14 أكتوبر هي التجسيد الحي للوحدة الحقيقية، وحدة النضال والإيمان بالمصير المشترك.
لكن لأكتوبر وجهاً آخر شديد الكآبة، ذلك الذي جرى بعد 14 سنة من 14 أكتوبر المجيد. يومئذ كان اليمنيون على موعد مع توحيد الأرض تتويجاً لوحدة النضال والكفاح المشترك.
كانت الوحدة التي يخطط لها الرئيسان سالم ربيع علي وإبراهيم محمد الحمدي، تقوم على قواعد راسخة ورواسب صلبة أكثر مما هي مجرد علم ونشيد ورئيس واحد. ولذلك سبق الاستعمار بأدواته الإقليمية والمحلية، فاغتال الرمز والقائد الوطني إبراهيم الحمدي، ثم لم تمضِ سنة واحدة حتى تم قتل القائد الآخر في عدن سالم ربيع علي.
كيف هزم أكتوبر أكتوبر؟
سيظل السؤال مثاراً إلى امد طويل. لكن السؤال الأكثر أهمية الآن، بعد ما جرى في 21 سبتمبر في صنعاء، وما نهض في عدن من دعوة للانفصال وتشكيل مجلس للجنوب، السؤال هو:
هل انتهت الجمهورية في الشمال وغاب أمل الوحدة؟
والجواب: ربما إلى حين، لكن كارل ماركس محق في ما قال عن الحتمية التاريخية.
سوف يصحح التاريخ مساره، ويبقى أكتوبر المضيء، ولن يبقى من أكتوبر الأسود غير طعم المرارة.. فقط طعم المرارة.