في رحلة برية منهكة، امتدت من محافظة حج ة إلى العاصمة صنعاء، خسر عبدالغني عبدالله الشباطي أكثر من مليون ريال في علاج أبناء أخيه من مرض “الليشمانيا” الذي لا تزيد تكلفة علاجه عن 100 ألف ريال لو لم يسلك الشباطي طريق التداوي بالأعشاب. ذلك أن ا ستخدام الأعشاب لعلاج ا لليشمانيا “خطأ كبير يلحق الضرر بالمصاب” ، حسبما يؤكد لـ”يمن سايت” أخصائي الأمراض الجلدية الدكتور عبدالواسع المخلافي.
والليشمانيا طفيليات تنتقل عن طريق لدغة أنثى ذباب الرمل الفاصد المصابة. وله ثلاثة أشكال رئيسية : الليشمانيا الحشوي (وهو أشد أشكال المرض خطورة، لأنه مميت في معظم الحالات إذا تُرِك دون علاج)، والجلدي (الأكثر شيوعاً، وعادةً ما يسبب تقرحات جلدية)، والمخاطي الجلدي (يصيب الفم والأنف والحنجرة)، حسب ما تقول منظمة الصحة العالمية التي تقدّر عدد حالات الإصابة بهذا الداء بين 700.000 ومليون حالة سنوياً .
وكانت إصابة طفلي الشباطي، كما يشرحها لـ”يمن سايت”، عمهما عبدالله، بدأت بظهور تقرحات على أنف و جه الابن الأكبر (7 سنوات) و أخيه الأصغر (5 سنوات) الذي عانى أيضاً من نفس التقرحات، لكن تحت الفم .
وعملاً بنصيحة قريب لها، استخدمت الأسرة عشبة لعلاج صغيريها، لكن العشبة ضاعفت التقرحات حتى تآكل أنف الابن الأكبر بشكل شبه كلي، وارتفعت حرارة أخيه “عندها أخذت الطفلين إلى صنعاء متنقلاً بهم من مشفى إلى آخر، وقد أجريت للأخ الأكبر عملية تجميل للأنف”، يقول الشباطي.
خلطة سميرة
يمنيون كثر، غير الشباطي، يقصدون معالجين بالأعشاب، لأسباب عدة، منها ضعف الوعي، ورداءة الخدمات الصحية الرسمية، أو غيابها في بعض المناطق، لكن استخدام الأعشاب من دون معرفة بمكوناتها، قد يؤدي إلى نتائج عكسية، وفق “دليل نباتات وأعشاب اليمن الطبية”، للباحث عبدالفتاح الحكيمي الذي يقول إنه بمؤلفه هذا يسعى لد حض المزاعم القائلة بأن “العشبة التي لا تنفع فإنها لا تضر”.
وتعترف منظمة الصحة العالمية (WHO) بالطب التقليدي (الشعبي) والتكميلي، ومنه الأعشاب، إلا أن هذه المهنة مازالت في اليمن منفلتة لا تحكمها قوانين ولا تخضع لرقابة رسمية، حسبما يؤكد لـ”يمن سايت” الدكتور كمال الشميري، مدير برنامج الطب الشعبي في وزارة الصحة والسكان في حكومة صنعاء غير المعترف بها دولياً.
وسواء تعلق الأمر ب الليشمانيا أو بالأمراض الجلدية بعامة، فإن ا لعلاج بالأعشاب “لا يعد بديلاً آمناً عن الأدوية، فالأدوية معروفة مكوناتها واستخداماتها، أما الأعشاب فلا نعرف ما هي بالفعل، ناهيك عن استخدام نفس العشبة لكل الأمراض”، يقول المخلافي الذي يرى أن استخدام الأعشاب بدون دراية قد يؤدي إلى تحسس جلدي، بل قد يفاقم المرض الجلدي .
وهذا ما حصل لسميرة (٢٤ عاماً)، الشابة الريفية في محافظة إب، التي وبسبب أشعة الشمس التي عادة ما تلفح سكان الريف، أصيبت بما يسمى “الكلف” في خدها، فلجأت لطبيب أعشاب وصف لها خلطة عشبية فاقمت حالتها، ما اضطرها أخيراً لزيارة طبيب مختص، حسبما تروي لـ”يمن سايت’.
تقول سميرة : “أصبت بالفزع عندما أزحت النقاب عن وجهي لدكتور الجلد وصرخ: ما هذا؟ مشيراً للبقع السوداء مع البنفسجية والمنتفخة في وجهي”.
وعلى غرار جلجامش بطل الأسطورة السومرية الذي هام على وجهه بحثاً عن عشبة الخلود، ليصل في نهاية رحلته إلى قناعة أن عشبة الخلود مجرد وهم؛ كذلك باتت سميرة على قناعة تامة بلا جدوى الأعشاب، حسبما تؤكد لـ”يمن سايت”.
وجهان لرداءة واحدة
لا تتوفر إحصاءات رسمية بعدد ممارسي الطب الشعبي، إلا أن دراسة قديمة أعدها الدكتور كمال الشميري، مدير برنامج الطب الشعبي، بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية، في عام 2009، قدرت عدد هم بـ668 ممارساً، يتركز معظمهم في تعز وإب وصنعاء بالترتيب، منهم 49.4 % لا يجيدون القراءة والكتابة، و7.5 % فقط يحملون مؤهلات جامعية، و44.8 % ورثوا المهنة عن آبائهم وأجدادهم.
ولم تجر منذ تلك الدراسة أي مسوح، ولا توجد إحصاءات رسمية حديثة، حسبما يؤكد الشميري الذي يلفت إلى ظاهرة تحكم سوق العلاج بالأعشاب، وهو توارث المهنة أباً عن جد “ما يدلنا على أن نسبة المتعلمين منهم لم تزد طالما هي معتمدة على الوراثة وكسب الخبرة الذاتية”؛ يقول الشميري.
وضمن سلسلة القصص التي وثقها “يمن سايت “، تروي ليلى، من محافظة صنعاء، عن استخدام والدتها البالغة من العمر 50 عاماً، مستحضراً عشبياً ل خفض وزنها، لكن المستحضر أصابها ب صداع بسبب رائحته القوية، في حين كان يخبرها ممارس الطب العشبي أن هذا أمر طبيعي، وسيزول، لكنها لم تتحمل، فلا هي استفادت من العشبة وخفضت وزنها، ولا هي تحملت عواقب رائحته وثقلها على المعدة. و”عندما أخذتها لأحد المراكز الطبية كانت النتيجة التهابات شديدة في الجيوب الأنفية، ومشاكل في المعدة مازالت تعاني منها”، تقول ليلي لـ”يمن سايت”.
ووفرت الحرب الأهلية التي يشهدها اليمن منذ 21 سبتمبر 2014، بيئة خصبة لانتشار مراكز التداوي بالأعشاب والرقية الشرعية، وفق ما بينته تقارير صحافية. وكثير من مراكز التداوي بالأعشاب تملك حسابات على “فيسبوك”، وتروج لخدمة العلاج عبر تطبيق “واتساب”، وتوصيل الدواء العشبي المناسب إلى المنازل.
كما تحظى هذه المراكز بترويج مدفوع عبر وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة، مدعية في إعلاناتها أنها مرخصة من وزارة الصحة.وهو ما نفاه الشميري، موضحاً أن ممارسي العلاج بالأعشاب لا يوجد لديهم ترخيص من قبل وزارة الصحة، “لكن لا جدوى من إيقافهم طالما لا يوجد نص قانوني أو قرار بشأن شروط وضوابط الإعلان عن منتجات وخدمات الطب العشبي”، يقول الشميري.
وكانت وزارة الصحة العامة والسكان أعدت قبل اندلاع احتجاجات 2011، بسنوات، مشروع “قانون الطب الشعبي البديل والتكميلي”. يشترط مشروع القانون على ممارس الطب البديل: “الحصول على دبلوم في طب الأعشاب على الأقل بعد البكالوريوس في طب عام من جامعة معترف بها، والحصول على ترخيص مزاولة مهنة وفتح منشأة (مركز أو عيادة)”، إلا أن مشروع القانون لم يقدم إلى البرلمان لإقراره.
وفيما يستمر الجدل حول نجاعة الأعشاب ما بين مؤيد ومعارض؛ يقترح الحكيمي في حديثه لـ”يمن سايت “، إضافة مادة العلاج التكميلي بالنباتات والأعشاب إلى مقررات طلاب الطب البشري والصيدلة في الجامعات اليمنية، كأبسط إجراء ممكن جداً وغير مكلف.
ويدعو الحكيمي إلى تبني وتأسيس صناعات دوائية نباتية معيارية تسهل وصف الطبيب وتعاطي المرضى للجرعات العشبية الجاهزة تواكب أشكال العقاقير الصيدلانية المعروفة.
ويعد الطب الشعبي والتداوي بالأعشاب الأساس الذي منه جاء الطب الحديث. و عرف اليمنيون القدماء مهنة الطب، وبرعوا في ممارستها، وفق ما تشير النقوش واللقى الأثرية والمومياوات المكتشفة.
وعلى الرغم من انفتاح اليمن على الطب الحديث، إلا أن اللجوء للمعالجين الشعبيين والمشعوذين ما انفك يعد الوجهة الأكثر شعبية في بلد يعاني من تفشي الأمية.
لكن ما يؤخذ على ممارسي الطب بنوعيه الشعبي والحديث، هو تلاقيهم في الرداءة، خصوصاً مع تفشي الأخطاء الطبية في المشافي العامة والخاصة، وبروز ظاهرة الشهادات المزورة، حسبما تظهر بيانات المجلس الطبي الأعلى التابع لحكومة صنعاء.